Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
لا يزال ينبض كالحياة في الدماء والعروق،
وكل قانون كشفنا أمس كنهه وصدقه
يغير الأرض ويهدي للحياة الحقة.
إلى أن يختتمها بهذه السطور:
لا زلنا حتى الآن نفتش عن معنى قدر الإنسان،
فاحنوا الهامات خشوعا، ضحوا، هاتوا القربان!
إذ لا زلنا أكثر منكم حتى الآن!
إن الموتى يلوذون بالصمت، ونحن لا نسمعهم إلا من خلال كتاباتهم، نتكلم عنهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبونا إلا بما سبق أن قالوه في مؤلفاتهم، وسنجد في هذه المؤلفات عبارات تبعث حية بعد رقاد طال أمده آلاف السنين؛ لأنها يمكن أن تقدم الإجابة عن أسئلة نطرحها اليوم، بل إننا لنستطيع أن نتوصل من قراءة النصوص المشهورة إلى كشوف قادرة على تغيير آراء كنا نحسبها ثابتة.
والتعامل مع الموتى لا يقوم إلا على الخشوع والاحترام، كأنما نقول لأنفسنا: أليس من الممكن أن ينهضوا فجأة من رقادهم ونراهم أمامنا؟! وكيف نتحمل المسئولية تجاههم، بماذا نرد عليهم إذا سألونا عما قلناه عنهم؟ إن دعاة الواقعية التافهة هم وحدهم الذين يتصورون أن الموتى قد ماتوا، وهم الذين لا يطلبون عندهم شيئا. وربما تطلعنا - في ساعات الحسرة والاكتئاب - إلى أجيال أخرى تنصفنا بعد موتنا ممن يشوهون أعمالنا ويسيئون إليها. ويدفعنا الشعور بالمخاطر التي تهدد ذاكرة التاريخ إلى القيام بواجبنا وتقديم كل ما في وسعنا للمحافظة على معاني الجلال والحقيقة التي يزخر بها وإلقاء الضوء عليها. وإزاء المحاولات المستمرة التي تبذل دون طائل منذ عهد الفراعنة لمحو آثار الماضي ونسيانه وإفساده، يمكننا أن نتصور مدى الرعب الذي أحس به نيتشه عندما تخيل أن من الممكن أن يظهر في المستقبل وحش رهيب يسخر التاريخ بأسره لخدمته، ويعمل على تشويهه، وتزييفه، وتدميره. وإذا كانت العاطفة الصادقة التي تدفع الإنسان للمحافظة على نقاء ذاكرته التاريخية مرتبطة بوجوده الزمني، فإن هذه العاطفة نفسها تصدق على الوجود الأصيل الحميم الذي يحيا في الزمان ويعلم في الوقت نفسه أن التاريخ في مساره الموضوعي ليس هو الحساب أو القضاء الأخير. إن المتعالي وحده هو المرجع الأخير، ولا يمكن لإنسان أو شعب، بل لا يمكن للجنس البشري بأسره ، أن يستأثر به لنفسه. وقد كان الاعتقاد بأن التاريخ العالمي يمثل القضاء الأخير هو الخطأ الذي وقع فيه فكر انغلق على نفسه داخل حدود المباطنة (أو المحايثة). ومع ذلك يصدق على الوجود الحميم في الزمان أن الماضي هو الأساس الذي يستند عليه، وأن تذكر التاريخ واستيعابه هما لبه وجوهره. ولهذا فسوف نحافظ على عاطفتنا نحو التاريخ ما بقينا أحياء، وسنشعر نحوه بعاطفة أكبر إذا عرفنا كيف نتمثل تجارب أولئك الذين حققوا العلو فوق الزمان وتمكنا من استيعاب أفكارهم. هناك، في هذا العلو، لا يكون الموتى أمواتا، بل أحياء حاضرين، وكل ما نفعله الآن معهم، كل ما يدور بينهم وبيننا، يتصل اتصالا مشحونا بالأسرار بذلك الحاضر الأبدي الذي اختفى فيه كل صراع ونزاع؛ لأن الحكم الأخير قد صدر فيه بكل حسم ووضوح.
هنا والآن يتم التحصيل التاريخي واستيعاب معطيات التاريخ. وعلى حياتنا الخاصة - وعليها وحدها - يعتمد الفلاسفة العظام لكي نردهم إلى الحياة.
Unknown page