Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
الفلسفة إذن تجربة معيشة قبل كل شيء. هي تجربة الحقيقة التي تحياها الذات في تواصلها مع ذات أخرى - عبر رموز لغتها وعلاماتها ودلالاتها الممكنة - وفق إمكاناتها الوجودية الصميمة. وما دامت تجربة وجودية وذاتية تتم في التاريخ، فلن يتم تفسيرها على الوجه الملائم إلا بمنهج ذاتي وتاريخي أيضا. وغني عن الذكر أن هذا المنهج يقترب الآن أشد الاقتراب من منهج التأويل (الهرمنيوطيقا)، ويبتعد بالتدريج عن المنهج الظاهري بمعناه الدقيق عند مؤسسه الأول الذي استنكر أن تدخل فيه عناصر الذاتية البشرية من أي سبيل، أو قل إنه يقترب من منهج تفسيري انطلق من أساس ظاهري، كما حدث مع كل أصحابه الذين تبنوه بصور وأشكال مختلفة (خصوصا من هيدجر إلى جادامر وتلاميذهما).
والحق أن التاريخ لم يغب أبدا عن عيني ياسبرز؛ فهو لم يتوقف عن التفكير في أصله وهدفه (كما ينطق بهذا كتابه المشهور بالعنوان نفسه (1949م، 1963م)، وكتاباته المتأخرة عن مستقبل الإنسانية ومصيرها في مواجهة الخطر النووي المنذر بالإبادة والكارثة الجماعية)، وإذا كان التاريخ عنده هو قبل كل شيء تاريخ الأفراد العظام، فإننا لا نتصل بتراثه الماضي والحاضر لإشباع فضولنا للمعرفة، ولا لإثبات تميزنا بالعلم أو تفوقنا على الآخرين - كما يتصور بعض الصغار في بلادنا، من الأدعياء الاستعراضيين والمتضخمين الجوف، الذين ارتفع ضجيج طبولهم، واشتد سعارهم النرجسي إلى الشهرة الرخيصة والأضواء الكاذبة - بل لكي نوجد بعمق وصدق حين نتواصل مع وجود العظماء ومع عظمة الذين وجدوا أنفسهم في الحقيقة، ولكي نوقظ في أنفسنا ينابيع المسئولية والجد والإنسانية، ونؤكد حريتنا في أن نكون ونأمل ونعمل في سبيل مستقبل نشارك في صنعه مع بقية «الأحياء» الذين ضمهم حضن الأرض منذ مئات السنين أو آلافها، أو من الذين ما فتئوا يضطربون على ظهرها. ومن لا يتدبر وجوده على «خلفية» من آلاف السنين في عمر البشرية فلن يعرف ذاته، ولن يدرك الهدف من الماضي والحاضر والمستقبل. ومن ثم يصبح التاريخ والتراث وجودا حيا يصل الأمس بالغد في لحظة سرمدية هي لحظة الفعل الحاضر في الحقيقة الشاملة العالية، لحظة الوعي الحر المسئول عن وجودها وعملها الدائب فينا وفي كل شيء وكل إنسان، فالتاريخ في النهاية هو مجلى هذه الحقيقة وسجل حضورها الحي، وما لم يتواصل وجودنا مع وجود أولئك الذين جسدوها فيه فلن نفهم شيئا عن معنى الفلسفة ولا غير الفلسفة. (4)
لعلنا أن نكون قد رأينا من العرض السابق أن «ياسبرز» قد اقترب أشد القرب من منهج الفهم والتأويل «الهرمنيوطيقي»، وإن لم يحرص هو نفسه على التصريح بذلك، ولا حرص أصحابه الذين تبلور المنهج على أيديهم في السنوات الأخيرة على ضمه إلى صفوفهم أو الإشادة بدوره في صياغته وتطبيقه. إن قراءاته لنصوص الفلاسفة وبعض الفنانين والأدباء تشهد على أنه ينظر فيها من الداخل ويحاول أن يتملك مضامينها الباقية بالتعاطف والحوار النقدي الحر معها، لا من وجهة نظر يفرضها عليها، ولا بمعيار مذهبي أو «شعاري» خارجي يدعي الصحة أو «الموضوعية» المطلقة،
13
ولا لانتقادها ومناظرتها وهدمها؛ فالنقد الحقيقي يفترض الحب، ويقوم على التفهم والكشف، وهو يبتعد عن كل شهوة رخيصة لإثبات التفوق والتحذلق. هذا التعاطف لا يمنع بطبيعة الحال من التصارع مع النصوص وإدراك حدودها وتناقضاتها وجوانب ضعفها وقصورها، ولا يتعارض مع تطبيق المناهج والأدوات العلمية الدقيقة لتحقيقها وتمحيص لغتها وبناءاتها ومستوياتها المختلفة، ووضعها في سياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية ... إلخ، فكل ذلك يقوي من أواصر اتصالنا بها، ويوقظ معرفتنا بحدود وجودنا وإمكاناتنا، وسواء استوعبنا مضامينها وتملكناها بحيث صارت شيئا خاصا بنا، أو رددناها وفندناها بوصفها «الآخر» المباين لحقيقتنا وغايتنا، فإن ذلك لن يقلل في شيء من موقفنا المبدئي القائم على «تجربة» النص، وإعادة استحضاره وإنتاجه، وضرورة بذل كل الجهود الذاتية والموضوعية الممكنة للاندماج فيه والاتصال بحقيقته المحدودة بحدود النقص والتناهي والقصور البشري المحتوم.
وليست هنالك طريقة (أو وصفة) معينة يمكن التوصية بها لتفسير نص معين أو تأويله. فلا مفر من اختلاف التفسير باختلاف النصوص والمفسرين. صحيح أنه ينبغي علينا أن نلجأ إلى المقولات العامة، وأساليب البحث وقواعده «العلمية» المتفق عليها، ولكن المهمة الملحة هي تحقيق المشاركة فيها، والتواصل معها، وبغيرهما يستحيل النقد الحقيقي كما يستحيل «التفلسف» الحقيقي الذي أوصانا به كانط (1724-1804م) عندما كان يكرر قوله لتلاميذه: «أنا لا أعلمكم الفلسفة - بمعنى تاريخ الآراء والأفكار والمذاهب - وإنما أعلمكم التفلسف، قفوا على أقدامكم، فكروا بأنفسكم!» ولا ننسى في هذا السياق أن نقاد فلسفة التأويل يأخذون عليها أنها لم تتوصل إلى مبادئ أو قواعد يمكن الإجماع عليها، ناسين هم أيضا أنه لم يتوصل أحد حتى اليوم إلى مبادئ ثابتة أو قواعد مطلقة، لا في الفلسفة ولا في النقد، وأن من الطبيعي أن تختلف المبادئ والقواعد - إذا صح استخدام هاتين الكلمتين - باختلاف المفسرين الذين تختلف قراءاتهم وتفسيراتهم للنص الواحد، دون أن يلزم عن ذلك بالضرورة أن نتهمهم بالذاتية والنسبية، وتنكب سبيل الموضوعية؛ لأن هذه المفاهيم نفسها بحاجة دائمة إلى التحديد والتوضيح، كما أن أصحاب فلسفة التأويل يؤكدون أن منهجهم ذاتي وتاريخي ونسبي، وأن الموضوعية «المطلقة» هنا شيء مستحيل؛ ذلك لأن الفهم أو التأويل عملية دائرية تنصهر فيها الآفاق وتتداخل، أو تتنافر وتتباعد، فتحاول «ترجمة» الغريب والآخر الأجنبي عنها من موقفها الخاص لتزداد معرفة به. وهو على كل حال ليس عملية أفقية أحادية الاتجاه (وقد ألح على هذا فلاسفة التأويل، من هيدجر إلى جادامر وبولنو) والمهم هو فتح أبواب الإمكانات المختلفة للقراءات المتعددة والممكنة للعمل الفكري أو الفني وللوجود الإنساني.
ربما جاز لنا في النهاية أن نعترض على النظر إلى الأعمال والتجارب الفلسفية والفنية بوصفها مجرد رموز، أو بالأحرى شفرات تحتاج إلى الحل، لبيان دلالتها على العلو أو الحقيقة الشاملة كما يفهمها ياسبرز نفسه، أو كما يوحي إلينا بأنها مستعصية على الفهم. وسيكون من حقنا في هذه الحالة أن نأخذ عليه تقييده للمعاني الممكنة للرمز في معنى واحد، بالرغم من أن الرمز يختلف عما يدل عليه ويزيد عنه، ولا يمكن أن يقتصر على العالي أو الشامل وحده. وربما جاز لنا كذلك أن نقول إن هذا في نهاية المطاف تفسير أحادي لا يستقيم مع استقلال العمل أو النص وخصوصية تركيبه وسياقه، ولا مع قابليته لتفسيرات وتأويلات متعددة، يمكن أن ينفتح عليها وأن تنفتح عليه، كما أن مختلف النصوص والأعمال ستصبح في هذه الحالة مجرد أمثلة أو نماذج لا تكتسب معناها وحقيقتها الخاصة إلا من حيث دلالتها على تلك الحقيقة الشاملة، أو بالأحرى من حيث تعبيرها عن فلسفة «ياسبرز» نفسه، التي تدور حولها دوران السواقي والأراجيح حول محور واحد، أو الأغاني والتنويعات على لحن لا يتغير (وهذا ما يمكن أن يقال أيضا بمعان مختلفة عن تفسيرات فلاسفة كبار آخرين لنصوص غيرهم، مثل تفسيرات أرسطو قديما، وهيجل حديثا، وهيدجر في عصرنا الحاضر؛ إذ يبرزون من تلك النصوص ما يؤكد فلسفاتهم هم) كل هذا جائز ومشروع. ولا يملك أحد أن يحرمنا حقنا في تفسير «تفسير» ياسبرز أو غيره، ولا في تقديم تفسير مختلف تحكمه عوامل تكوين ذاتيتنا ووجودنا التاريخي، وتأثير تجاربنا اللغوية والثقافية والتراثية التي تضافرت على تشكيلهما، بجانب انعكاس المقولات والأحكام والتصورات السائدة على معرفتنا وفهمنا ونقدنا، بل جنايتها في كثير من الأحيان على محاولاتنا في تفسير الأعمال والنصوص، وبخاصة ما ينتمي منها إلى عصر غير عصرنا، وإلى ثقافة وتاريخ وتقاليد مختلفة عن تلك التي كونتنا. صحيح أن التفسير الجوهري - إذا صح هذا التعبير - ينطوي دائما على محاولة لمجاوزة النص نفسه إلى السؤال أو الإشكال الأساسي الذي بعث ذلك النص إلى الوجود. ومهما حاولنا أن نفتح أفقنا على أفق النص والذات التي أبدعته، فلا بد أن يبقى تفسيرنا محدودا بالحدود والعوامل التي سبق ذكرها، ولا مفر من أن يكون مختلفا عن أي تفسير آخر لذات أخرى غير ذاتنا، فلا مجال هنا للحديث عن «موضوعية» مطلقة، نعلم اليوم أكثر من أي يوم مضى أنها مستحيلة، ولا مناص من الاعتراف بأننا نفهم دائما من خلال أسلوبنا في الرؤية والوجود، وهو أسلوب قد لا نعيه إلى حد كبير، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نعيش بدونه.
مهما يكن الأمر فإن تدخل التأمل الفلسفي (أو التأمل النقدي القائم بالضرورة على أسس فلسفية) ما يزال بنظرياته واتجاهاته الكثيرة التي تشغلنا اليوم - ولا حاجة بي لذكر أسمائها أو الجدل حولها - أقول إنه ما يزال موضع السؤال والإشكال، ولم يفلح معظمها - كما أسلفت - في تقديم معايير مضمونة أو قواعد متفق عليها من الجميع (ربما لأننا ننسى أحيانا أن التفسير يقوم على الفهم والتذوق، ولا بد أن يختلف كلاهما باختلاف النصوص والمتذوقين ...) ولو نجحت الفلسفة في تقديم أسس نظرية متينة للتمييز بين التفسير «العلمي» والفهم «الإنساني» - أو الذاتي التاريخي - (كما حاول فلاسفة الهرمنيوطيقا وما زالوا يحاولون دون أن يصلوا إلى مبادئ أو نتائج عامة الصدق، ربما لأسباب كامنة في فلسفتهم نفسها)؛ أقول لو أمكن هذا ذات يوم في حدود معينة، لكان للفلسفة تأثير أكبر وأكثر فعالية على النقد الأدبي والفني، ولا شك عندي في أنها تسعى دائبة على الطريق إلى هذا التأسيس، كما يتبين من بحوث بعض المعاصرين (مثل رومان إنجاردين، وج. ه. فون رايت، وك. و. آنيل، وت. م. زيبوم، وغيرهم). وسيبقى تفسير التفسيرات نفسها ومراجعتها أمرا يحتمه مبدأ تعدد التفسيرات وثراء النصوص العظيمة - في الفلسفة والأدب والفن - بالإمكانات التي لا حد لها. ويكفي النص الذي نقدمه أن يكون قد سمح لنا بتفسيره، بعد أن سمح بالانفتاح على مختلف التفسيرات، ومن بينها تفسيرنا المحدود بقدراتنا وإمكاناتنا وأدواتنا المحدودة.
مهمة كتابة تاريخ الفلسفة
التصور التاريخي للفلسفة
Unknown page