Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
بل إن تلك العقيدة نفسها هي التي استحثتهم على السير في جميع دروب الفكر البشري، فكانت الحقيقة ضالة كل منهم ينفق العمر والمال والفكر في اقتفاء أثرها، ويلتقطها أنى وجدها، وإن هؤلاء الأقوياء من أصحاب التيجان والعروش بذلوا أنفس وأعز ما كان لديهم من المال والجاه والنفوذ في إيجاد الفلسفة في بلاد الشرق العربي والغرب الإسلامي، وإن من حث على العلم هو تلك العقيدة التي ظهرت في الصحراء على لسان (محمد) وأول من شجع على نشر الحكمة هم هؤلاء الخلفاء والملوك من الغزاة، والمجاهدين من ذوي قرباه وخلفائه وصحابته والتابعين.
وأجدر الناس بتفهم هذا القول هم الفريق الذي ظهر في الزمن الأخير بمظهر تحقير الفكر الشرقي الإسلامي، والحط من أقدار رجاله المتميزين، والطعن على علومهم وآدابهم وحكمتهم، والانتقاص من آثارهم التي كانوا بها يهتدون؛ فهذا الفريق من الخلق يعمل على هدم آثار السلف الصالح في العقل والفكر بمعول التعصب الذميم والمنفعة المادية، وإلا فكيف يستبيح أديب أو أريب أو عالم أن يقلل من قيمة أسلافه في الثقافة الإنسانية؟ وهل استباح كاتب أوروبي، من الذين يدعي هؤلاء الناس تقليدهم، لنفسه الحط من قدر أسلافه في العلم والفلسفة لمجرد قدمهم ومضي الأجيال الطويلة على اختفائهم من عالم الوجود المادي؟
بل الأمر على النقيض؛ إذ نرى النوابغ من الكتاب والمؤلفين يعملون أبدا على إحياء سير الأقدمين والإشادة بذكرهم، ونشر كتبهم وتزيينها وشرحها وتفسيرها، ومحاولة رد معظم الفضل في الحياة العقلية الحديثة إليهم، ولا يوجد فيلسوف أوروبي لم يكن له «مثل أعلى» من هؤلاء الحكماء الأقدمين يحذو حذوه وينسج على منواله، ويستضيء بنوره، وهم دائما دائبون على إحياء أعياد موالدهم، وتخليد ذكر أيامهم الكبرى بظهور مؤلفاتهم وعرفان جميلهم وفضلهم على الإنسانية.
ومن هؤلاء القوم فريق يدعي أنهم مجددون ويذمون كل قديم لمجرد قدمه، ويتهوسون بعبادة كل جديد لمجرد جدته، على أنهم لو عقلوا لعلموا أن من لا قديم له لا جديد له، وأن الشرف والنبل يرجعان إلى عراقة الأصل، وأن أفخم البنيان يشاد حتما على أمتن أساس، فكيف يكون لهم عماد دون أن يتصلوا بآثار الأجداد والأمة التي لا ماضي لها ليس لها حاضر ولا مستقبل؟
على أننا لا نعتبر «الإسلام» في تسمية هذا الكتاب الضئيل دينا أو عقيدة حسب، بل نعتبره مدنية كاملة شاملة، حافلة بكل معاني الحياة العقلية والثقافة الأدبية، وعلى هذا القياس الصحيح يكون الفلاسفة الإسرائيليون والمسيحيون بل أحرار الفكر ممن نشئوا وترعرعوا في كنف المدنية الإسلامية حكماء إسلاميين بحكم الفكر الوسط والثروة العقلية المشتركة، وعلى هذه الخطة الحكيمة سار الخلفاء العباسيون والأمويون والفاطميون في المشرق والمغرب، فقربوا الكتاب والمفكرين والأدباء من غير المسلمين ودونوا لهم الدواوين، وقلدوهم أسمى مناصب الدولة، وهؤلاء الخلفاء العظماء شرحوا صدورهم وفتحوا قصورهم للفلاسفة من أهل سائر الأديان، بينما كان أباطرة وملوك وأمراء غيرهم في ممالك أخرى يصلبون ويعذبون ويشنقون ويحرقون رجالا ثبتت لهم العبقرية في الفكر والزعامة في العلم فيما تلا من الأيام.
وسوف يجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب فصلا مسهبا في الصوفية بمناسبة ترجمة الشيخ «محيي الدين ابن العربي» الذي قد يتردد بعض المؤلفين في وضعه في صف الفلاسفة، على أنهم لا يترددون في عد الغزالي فيلسوفا لمجرد كتابته في الفلسفة، بغض الطرف عن الغاية التي كان يقصد إليها، على أن ابن العربي أحق بوصف الفيلسوف من الغزالي؛ لأن التصوف نوع من الفلسفة إذ هو يرسم خطة للحياة الإنسانية، وصاحبه يبحث عن الحقيقة ويسعى في حل لغز الحياة وتفهم أسمى أسرار الكون، ولا تخرج الفلسفة في أكمل معانيها عن حدود هذه الغايات، فضلا عن أن ابن العربي تفرغ لمباحثه وأخلص فيها ودقق وحقق، وأمعن وتعمق، ووقف حياته ووجوده على غرض واحد لم يتعده، وقد بلغ فيه درجة من أسمى الدرجات، بل إن الكتاب الوحيد الذي اشتهر به سيدنا حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي - وهو «إحياء العلوم» - يعد في نظر الكثيرين من الأخصائيين في الدرجة الثانية بالنسبة لكتاب «الفتوحات المكية» تأليف ابن العربي، وقد كانت لمحيي الدين شخصية مدركة متميزة، سادت تاريخ التصوف الإسلامي الحديث؛ لأنه المحيي غير مدافع، والشيخ الأكبر دون منازع عند أهل السنة من العرب والترك، وعند أهل الإمامة من الفرس.
ولما كان العرب واليهود فرعين لدوحة واحدة هي الدوحة السامية، والشعبان متفقين أصلا ومدنية وتاريخا، ويكاد اللسانان العربي والعبراني يتحدان، ولولا ما امتازت به اللغة العربية من ظهور لهجة قريش وقدرتها على الحياة كانت مناحي الفكر لديهما متحدة.
بيد أن الفرق بين الشريعتين الموسوية والمحمدية، قد ظهر ظهورا جليا في قابلية كل منهما في البحث الفلسفي، وقد ظهر في كل عهد من العهود نوابغ إسرائيليون يعدون في مقدمة الشعوب التي ينتمون إليها وطنا لا عقيدة، وفي عصرنا هذا عبقريون، منهم أحياء ومنهم من قضى نحبه، أمثال: «كارل ماركس» و«أينشتين» و«برجسون» وعشرات لهم في عالم الفكر البشري ذكر باق.
وقد حصر حكماء بني إسرائيل همهم في العصور الأولى لظهور ملتهم في التهديد والوعيد وتعليم الحكمة الربانية، وقالوا بوحدانية الله ووحدة خلقه ووحدة سائر الكائنات، فكان بحثهم قاصرا على الذات، ولم يتعد إلى الصفات التي يعتبرها فلاسفة الإسلام مظاهر للذات، ولم يتجه نظر أحد من هؤلاء الحكماء إلى البحث في علم النفس البشرية وحقيقتها، فكأن فلسفتهم كانت عبارة عن الاعتقاد المطلق بالله بدون بحث علمي أو طريقة فلسفية، مع أن مصادر العلوم الربانية والنفسانية كانت متوافرة لديهم في كتب الهنود والإغريق.
لم يعرف فلاسفة اليهود علم المنطق، ولم يسلكوا سبيل البراهين والأدلة والحجج، أو أنهم عرفوه ولم يلجئوا إليه واكتفوا في تأييد آرائهم بالإسناد إلى الوحي.
Unknown page