Tarikh Cilm Adab
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
Genres
وعبر العرب عن قول الشعر ونظمه بالقرض، وعن الشعر بالقريض، ومعنى القرض القطع؛ لأن الشعر مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وكانت عنايتهم في الجاهلية مصروفة للكلام على المنظوم من شعر وسجع؛ لأن تأثيره في النفوس أشد لما يحدثه من النغمة التي تطرب لها الأذن، وتلهو بها عن تمحيص الحق من الباطل في الكلام، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم؛ أي المسبوك تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا وتطلب فيه الإصابة والإفادة، وإفهام المعاني على وجه بديع وترتيب لطيف، وهذا القسم الأخير شبيه بالكلام الذي لا يتعمل ولا يتصنع له، بخلاف القصيد من الشعر فإنه يلتزم فيه قافية واحدة إلى آخر الكلام، ويشترط أن يكون كل بيت كلاما وحده مستقلا عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاما في بابه في مدح، أو غزل، أو رثاء، أو هجاء، أو حماسة، والرجز ضرب من الشعر ولو لم يلتزم فيه أن يكون على قافية واحدة.
والسجع يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة، ويذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء، والمقفى قد انتصر له في زماننا عبد الحق حامد بك مستشار السفارة العثمانية في لوندره وألف فيه رواية باللسان التركي على الطرز الجديد. وأما المرسل فهو الذي يرسل فيه الكلام إرسالا بدون تقييد بقافية أو سجع أو وزن، أو شيء ما بل يطلق إطلاقا. ويتأتى في هذا القسم من الفصاحة، والبلاغة ما لا يتأتى في السجع ولا في الشعر؛ لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع أو القافية، وكذلك الشعر يضيق نطاق الكلام ويمنع القول من انتهائه ويصده عن تصرفه على قواعده، ومن يلتزم في كلامه السجع أو الوزن أو القافية فهو يلفق بهما ما ينقصه من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال، ويجبره بذلك القدر من التزيين بالأسجاع ورن الصوت بالوزن والنغمة كما يزينه ببقية الصنائع البديعية، ويغفل عما سوى ذلك من بلاغة المعاني، فلما سلك الشعراء في الجاهلية حفظ الألفاظ، وتصنيعها دون ضبط المعاني وترتيبها؛ عرض بهم القرآن الكريم، فقال:
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، قال الباقلاني: «فأخبر أنهم يتبعون القول حيث توجه بهم، واللفظ كيف أطاعهم، والمعاني كيف تتبع ألفاظهم، وذلك خلاف ما وضع عليه الإبانة عن المقاصد بالخطاب.» ولما شرعت دية الجنين جاء بعض العرب إلى النبي - عليه السلام - وكلموه في هذا الشأن، ولفقوا كلامهم بالسجع ليجعلوا فيه قوة الحجة الدافعة، والبرهان القاطع، فقالوا: كيف ندي من لا أكل ولا شرب ولا صاح فاستهل أليس دمه قد بطل؟
فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية؟ أسجعا كسجع الكهان؟
نعم إن الشعر إذا تهذب ووفي له بجميع الأسباب لم يقاربه من كلام الآدميين كلام، ولم يعارضه من خطابهم خطاب، ولكن قلما يفلح الشاعر المجيد إلا في بعض الأبيات سيما في الشعر العربي حيث ضيق فيه النطاق على الشعراء، وألزموا باتباع القواعد التي تخطاها شعراء الإفرنج، على أن أكثر فحول الأدب في البلاد المتمدنة صارفو عنايتهم في يومنا إلى النثر المرسل دون النظم، كما فعل فيكتور هوكو في آخر عمره، وكما يفعل اليوم أميل زولا وغيره مثل تولستوي أديب الروس. •••
ثم ظهر الإسلام وجاء القرآن بأفصح لفظ، وأبلغ معنى على أسلوب جديد يخالف أساليب العرب في النظم والنثر، فلا هو مرسل ولا مسجع، بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى من غير التزام حرف يكون سجعا أو قافية، وسميت آخر الآيات فواصل؛ لأنها ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضا قواف، ووقع اللفظ في القرآن تابعا للمعنى؛ ولذا فاق كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغتهم؛ لأن الواحد منهم إن برع في فن من فنون النظم أو النثر قصر فيما دونه، والقرآن أبدع في جميع ضروب الكلام وطرق الإفادة، واشتمل على قصص وأخبار، وشرائع، وأحكام، ووعد، ووعيد، وترهيب، وترغيب، وتنزيه، وتحميد، وحجج على التوحيد وأمثال سائرة ومواعظ زاجرة وأصول إدارية وسياسية، وغير ذلك مما لم يحط بنصفه، بل ولا بربعه أديب من الأدباء، ولا شاعر من الشعراء، وناضل عن الحرية وخفف أذى العبودية، وندد بالظلمة وتوعدهم بما تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فقال في الوعيد:
وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، وبين استبداد المستبدين من الملوك والسلاطين وكيفية إيقاعهم التفرقة بين رعاياهم، ثم إيصال الجور والأذى إليهم فرقة بعد أخرى، كما كانت سياسة فراعنة مصر ونماردة بابل وقياصرة الرومان والروم وأكاسرة الفرس، فقال في تصوير هذا الاستبداد:
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون .
قال الباقلاني:
6 «ذكر العلو في الأرض باستضعاف الخلق بذبح الولدان، وسبي النساء وإذا تحكم في هذين الأمرين فما ظنك بما دونهما؛ لأن النفوس لا تطمئن على هذا الظلم، والقلوب لا تقر على هذا الجور، ثم ذكر الفاصلة التي أوغلت في التأكيد وكفت في التظلم، وردت آخر الكلام على أوله، وعطفت عجزه على صدره.
Unknown page