وعلى إثر حادثة كربلاء ظهرت الخوارج، وعظم أمرها، فوجه ابن زياد جيشا لقتالهم بالأهواز، فاندحرت عساكره، فاغتاظ حتى كان لا يدع بالبصرة أحدا ممن يتهم برأي الخوارج إلا قتله، حتى قيل: إنه قتل بالتهمة والظنة تسعمائة رجل من البصريين.
ولما مات يزيد الأول في سنة 64ه/684م تفاقم أمر الخوارج، وزادوا بمن التحق بهم من البصريين وغيرهم ممن كانوا على رأيهم، فاضطربت البصرة، وصار أهلها فرقا وأحزابا، وكان ابن زياد يومئذ بالبصرة، فلما بلغه نعي يزيد نادى: «الصلاة جامعة»، فاجتمع الناس بالمسجد فصعد ابن زياد المنبر وقال: «يا أهل البصرة إن مهاجرنا إليكم، ودارنا فيكم، ومولدي فيكم، ولقد وليتكم وما يحصي ديوان مقاتلكم إلا سبعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة ألف، وما كان يحصي ديوان عمالكم إلا تسعين ألفا، ولقد أحصى اليوم مائة وأربعين ألفا، وما تركت لكم قاطبة من أخافه عليكم إلا وهو في سجنكم، وإن يزيد قد توفي، وقد اختلف الناس بالشام، وأنتم اليوم أكثر الناس عددا وأعرضهم فناء وأغنى الناس وأوسعهم بلادا، فاختاروا لأنفسكم رجلا ترضونه لدينكم وجماعتكم، فأنا أول راض من رضيتموه فإن اجتمع أهل الشام على رجل ترضونه لدينكم وجماعتكم دخلتم فيما دخل فيه المسلمون، وإن كرهتم ذلك كنتم على أحد يليكم حتى تقضوا حاجتكم، فما بكم إلى أحد من أهل البلدان حاجة، ولا يستغني الناس عنكم»، فقالوا له: «قد سمعنا مقالتك، وما نعلم أحدا أقوى عليها منك، فهلم فلنبايعك»، فأبى عليهم ذلك ثلاثا، ثم بسط يده فبايعوه بالإمارة، وانصرفوا عنه يمسحون أيديهم بحيطان المسجد، وعبد الله لا يشعر بهم، ويقولون: «أيظن ابن مرجانة أنا ننقاد له في الجماعة والفرقة؟»
وظن ابن زياد أنهم صدقوه، وأنهم بايعوه بنية خالصة، فبعث إلى أهل الكوفة من يطلب بيعتهم له فأبوا ذلك، وأمروا عليهم عامر بن مسعود حتى يجتمع الناس، ثم كتبوا إلى ابن الزبير بمكة يبايعونه بالخلافة، فلما علم البصريون بما فعله الكوفيون خلعوا طاعة ابن زياد، وسخروا منه واحتقروه - ويروى أنهم هموا بقتله - فخاف على نفسه، فاستجار بالحرث بن قيس الأزدي، ثم بمسعود بن عمرو سيد الأزد، فأجاراه، ثم هرب بحاشيته من العراق إلى الشام بعد أن أخذ من بيت المال مليونا وتسعمائة ألف درهم.
واجتمعت كلمة البصريين على توجيه الإمارة لعبد الله بن الحرث بن نوفل، فولوه عليهم إلى أن يجتمع الناس على إمام، وذلك في السنة نفسها 64ه، وهم يومئذ لا إمام لهم ، والخوارج قد صاروا على قاب قوسين أو أدنى منهم.
وخاف البصريون على أنفسهم من الخوارج، فاجتمعوا على توجيه مسلم بن عبيس القرشي لقتالهم، وجمعوا له خمسة آلاف فارس، وسيروه، فالتقى مسلم بالخوارج، فكسروا جيشه، ووقع هو قتيلا في المعركة في محل يسمى الدولاب، فجهزوا جيشا ثانيا - زهاء عشرة آلاف راجل - وأودعوا القيادة إلى عثمان بن معمر القرشي، وسيروه لقتال الخوارج، فلحقهم بفارس، فدارت الدائرة على جيش البصريين، ووقع قائده عثمان قتيلا. (8-2) خروج البصرة من يد الأمويين
وعلى إثر ما تقدم كتب البصريون إلى عبد الله بن الزبير بمكة يعلمونه أن لا إمام لهم، ويبايعونه بالخلافة، ويسألونه أن يوجه إليهم رجلا من قبله يتولى أمر البصرة،
37
فوجه إليهم عمر بن عبد الله بن عمر التميمي، وذلك في سنة 64ه، وكان البصريون يومئذ منقسمين إلى فرق وأحزاب، فاضطرب أمر الإدارة على الأمير فعزله ابن الزبير، وولى مكانه الحرث بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك في سنة 65ه - وسماه بعضهم الحارث، ولما وصل الحرث إلى البصرة جمع أهلها واستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج، فطلبوا القائد المشهور المهلب بن أبي صفرة، وكانت الخوارج المعروفين بالأزارقة قد استولوا حينذاك على أصفهان والأهواز وما بينهما، وتوجهوا نحو البصرة حتى اقتربوا منها، وكان المهلب قد قدم من عند عبد الله بن الزبير إلى البصرة وقد ولاه خراسان، فاجتمع أشراف البصرة وأميرها الحرث، وأحضروا المهلب، وطلبوا منه أن يتولى حرب الخوارج فاعتذر بعهده على خراسان أولا، ثم لبى طلبهم، وانتخب من البصريين ممن يعرف شجاعته ونجدته اثني عشر ألف مقاتل - ويروى عشرون ألفا،
38
وسار حتى التقى بالخوارج، وصار يزيحهم مرحلة بعد مرحلة، حتى انتهوا إلى منزل من الأهواز، وهناك حدثت بين الفريقين معركة هائلة، كاد أهل البصرة ينهزمون لولا ثبات المهلب وقوة جأشه، وأصابت المهلب ضربة في وجهه أغمي عليه منها، فظن أصحابه أنه قد مات، فهاجموا وهجموا هجمة المستميت، فقتلوا عددا كبيرا من الخوارج فيهم زعيمهم نافع بن الأزرق - وقيل: عبيد الله بن الماحوز - وانهزم الباقون هزيمة منكرة إلى كرمان وجانب أصفهان.
Unknown page