Tarikh Adab Lugha Carabiyya
تاريخ آداب اللغة العربية
Genres
وكان الشعر ذا تأثير واعتبار في النفوس؛ فكان الشاعر يرفع قوما ويخفض آخرين بشعره. مما يرشد إلى ذلك ما جاء في ترجمة الأعشى في «الأغاني» من أنه كان لأبي المحلق شرف فمات وقد أتلف ماله، وبقي المحلق وثلاث أخوات له ولم يترك لهم إلا ناقة واحدة وحلتي برود جيدة كان يسد بها الحقوق. فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء فأحسنوا قراه، فأقبلت عمة المحلق فقالت: يا ابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوما إلا رفعهم، ولم يهج قوما إلا وضعهم، فانظر ما أقول لك واحتل في زق من خمر من عند بعض التجار، فأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردتي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه ونظر إلى عطفيه في البردتين ليقولن فيك شعرا يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة وأنا أتوقع رسلها! فأقبل يدخل ويخرج ويهم ولا يفعل، فكلما دخل على عمته حضته حتى دخل عليها، فقال: قد ارتحل الرجل ومضى. قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى تتبعه ذلك مع غلام أبيك مولى له أسود شيخ، فحيثما لحقه أخبره عنك أنك كنت غائبا عن الماء عند نزوله إياه، وأنت لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده. فلم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر، وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه، فوجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه، فخرج يتبعه فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمفتوحة اليمامة، فوجد عنده عدة من الفتيان قد غداهم بغير لحم وصب لهم فضيخا فهم يشربون منه، إذ قرع الباب، فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا، فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: ويحكم، أعرابي والذي أرسل إلي لا قدر له! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعرا لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة ثم أتيناك فلم تطعمنا لحما وسقيتنا الفضيخ واللحم والخمر ببابك لا نرضى بذا منك. فقال: ائذنوا له، فدخل فأدى الرسالة، وقد أناخ الجزور بالباب ووضع الزق والبردين بين يديه. قال: أقره السلام وقل له: وصلتك رحم سيأتيك ثناؤنا. وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها، وجلدها عن سنامها ثم جاءوا بهما، فأقبلوا يشوون وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب ولبس البردين ونظر إلى عطفيه فيهما فأنشأ يقول:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
وما بي من سقم وما بي معشق
ولكني أراني لا أزال بحادث
أغادي بما لم يمس عندي وأطرق
حتى انتهى إلى قوله:
أبا مسمع سار الذي قد فعلتم
فأنجد أقوام به ثم أعرقوا
به تعقد الأجمال في كل منزل
وتعقد أطراف الحبال وتطلق
Unknown page