وكان من حظنا السيئ أننا اخترنا معظم الأعضاء من الموظفين؛ ولذلك حين اختير حسين سري (باشا) رئيسا لاجتماعه الثاني أرسل إلي خطابا يفصلني من المجمع «مع الشكر». وكان وقتئذ وكيلا لإحدى الوزارات، فوافق جميع الأعضاء «الموظفين» ولم يشذ غير واحد - غير موظف - هو الأستاذ إسماعيل مظهر. وجاء في عقب طردي الصديق زكي أبو شادي يعتذر إلي بأنه لم يجرؤ على مخالفة «وكيل وزارة»؛ ولذلك أعطى صوته ضدي ووافق على طردي، على أنه يعرف أنه ليس من حق المجمع أن يفصلني لنشاطي السياسي. واتجه المجمع بعد ذلك وجهة اختصاصية غير شعبية؛ ولذلك لم ينتفع به الجمهور كثيرا.
وعندما أقارن بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية أجد أن القيمة العظمى للأولى أنها تحريرية؛ لأن التفكير العلمي يسير على نهج ارتقائي: هذا سيئ فيجب أن نبحث عن الحسن، وهذا أحسن ولكن يجب أن ننشد أحسن منه بالاكتشاف والاختراع. والتفكير الارتقائي هو بطبيعته تفكير علمي. وهو لم ينشأ في أوروبا إلا بعد أن اتجه الأوروبيون وجهة علمية في القرن السابع عشر. أما قبل ذلك فلم يكن هناك من يقول بأن الشعوب يجب أن ترتقي وتتغير. وقد يرد هنا علي بأنه كان هناك طوبويون يتخيلون حالا سعيدة للبشر غير حالهم الحاضرة. ولكن الفكرة الارتقائية لم تنبت قط في هذه التربة الطوبوية، وإنما نبتت من البذور العلمية.
والثقافة الأدبية إذا لم تجد الحافز من العلوم تركد، وقد كان هذا شأنها في العصور الوسطى: وسط زراعي راكد يعيش في ثقافة أدبية راكدة محافظة. أما الآن فالعالم المتمدن يعيش في وسط صناعي متحرك، يعيش في ثقافة علمية متحركة متغيرة.
ومن هنا قيمة التوجيه العلمي في الثقافة العربية الحاضرة. بل يجب أن يرتفع هذا التوجيه إلى مقام الدعاية.
ذكريات الحرب الكبرى الأولى
كانت الحرب الكبرى في 1914 متوقعة ، وكان أساسها المباراة العظيمة بين الإنجليز والألمان؛ فإنهما كانا على تقدم صناعي عظيم يحتاج إلى المستعمرات والمواد الخامة والأسواق. وكان الإنجليز حاصلين على كل هذا، ولم يكن الألمان حاصلين على شيء يؤبه به. فكانت الصناعات الإنجليزية تمتاز بالمواد الخامة الرخيصة التي تحصل عليها من الهند وجاوة ومصر وغيرها، فتستطيع بيع مصنوعاتها بأثمان منخفضة. ثم في الوقت نفسه كانت تجد التفضيل في الأسواق في هذه الأقطار وغيرها. وإذا لم يكن هذا التفضيل بالامتياز الجمركي الصريح الذي يجعل مصنوعاتها تدخل هذه الأقطار بسهولة، فإنه يكون بألاعيب أخرى تؤدي إلى التفضيل، ويقوم بها موظفو المستعمرات لخدمة طبقة الصناعيين والتجاريين في بريطانيا.
ولم يطق الألمان هذه الحال؛ أي أن يثرى الإنجليز بأوضاع غير عادلة، ويبقوا هم في تخلف اقتصادي، وشيء من هذه الحال كان أيضا بارزا في مقدمات الحرب الكبرى الثانية التي دعت اليابان فيها إلى «الرخاء المشترك».
وكانت الشرارة الأولى للحرب قتل أحد الأمراء من أسرة الإمبراطور فرانز جوزيف، وكان إمبراطورا هرما على إمبراطورية هرمة ركيكة. ولم تمض إلا أيام حتى كان العالم كله مشتعلا، وأخذ الجمهور في مصر على دهشة.
وكنت أصدرت مجلة «المستقبل» في القاهرة، فدعيت إلى تعطيلها في إدارة المطبوعات. ثم شرع الإنجليز في اعتقال من يتوجسون في اتجاهاته. ولبثت بعض الشهور وأنا أعمل مع مي في جريدتها؛ أي جريدة والدها «المحروسة». ولكني سئمت الرقابة التي لم تكن تسمح بنشر خبر صحيح إلا بعد أن تزيفه حتى تخرج الهزيمة التي كانت تقع بالحلفاء كأنها انتصار رائع لهم.
ورحلت إلى الريف، ورأيت كيف كان يسلط الإنجليز علينا الموظفين المصريين من مأمورين ومديرين وحكمدارين وشرطة لخطف محصولاتنا. وكانت الجمال والحمير بل الرجال يخطفون أيضا كما لو كانوا في قرية زنجية على خط الاستواء قد كبسها النخاسون لخطف سكانها وبيعهم في سوق الرقيق. وكان المنظر يهين النفس كما يفتت القلب. فكان الرجل يربط بالحبل الغليط من وسطه، وخلفه أمثاله، ويسيرون على هذه الحال صفا إلى أن يبلغوا «المركز» فيحبسون في غرفة المتهمين ثم يرحلون إلى فلسطين. وكنت أنجح أحيانا بالرشوة في استخلاص بعض هؤلاء المساكين. وذات مرة وأنا بالمنزل سمعت صراخا ودخلت على نسوة في فزع ونحيب، وعرفت أن ثلاثة ممن يزرعون أرضنا ألقي القبض عليهم وهم يحرثون في الحقل. فخرجت ووجدتهم مربوطين بالحبال الغليظة بحراسة أحد الشرطة. أما سائر الشرطة فقد تركوهم كي يغزوا قرية أخرى، واستطعت بمساومات مع الشرطة أن أحصل على الإفراج عنهم. ولكني لم أكن أنجح كل مرة، ففي ذات يوم قصدت إلى المأمور في الزقازيق أطلب منه إطلاق اثنين من الفلاحين، فتأملني ثم قال: أنا عايز أرحلك أنت لفلسطين. فتركته إذ لم تكن الظروف وقتئذ تأذن بالتحدي.
Unknown page