وكان أثر فرح أنطون في نفسي أني أكبرت الأدب الأوروبي إكبارا عظيما.
ولم يكن هذا غريبا في مثلي؛ فإن فرح أنطون استبدل بالماوردي عندي جان جاك روسو، وحملني على أن أستبدل بالكلمة الوضيئة والعبارة المذهبة أدب المبدأ والفلسفة والفكرة.
وعرفت فرح أنطون بعد ذلك حين اشتغلت معه في جريدة «اللواء»، وكانت جريدة الحزب الوطني يرأسها المرحوم عثمان صبري حوالي 1910، فزادني توجيها نحو الأدب الأوروبي. وعاش فرح في مصر إلى 1921 حين توفي وهو في الحادية والأربعين. وكانت وفاته نكبة على النهضة المصرية السياسية والأدبية. وكان من اللبنانيين القلائل الذين اندغموا في الحركة الوطنية المصرية اندغاما تاما. وكان سعد زغلول يحبه ويقدره. وزاره واصف غالي باشا وهو في فراش المرض قبيل وفاته بمنزل أخته السيدة روزا حداد وقدم له تحية الوفد.
والآن أعود بالذاكرة إلى هذه الشخصية الفذة وأتساءل: ما مقدار ما ضاع منا بوفاته؟
الحق أن ما فقدنا فيه عظيم فادح؛ فلو أنه عاش إلى أيامنا مثلا لطبع النزعات الأدبية والسياسية في مصر بطابعه. ولعله كان يوجه الأدب المصري هذه الوجهة الرومانسية التي آسف على أنه لا يتجهها الآن؛ لأننا على الرغم من كل جديد في هذا الأدب ما زلنا نعيش في أسر التاريخ بأدب أغلبه سلفي، نفكر بمزاج سلفي في لهجة سلفية. وأدبنا هو أبعد الآداب عن روسو، بل لقد أصبحت حركاتنا الاجتماعية سلفية أيضا كما نرى في حركة «الإخوان المسلمين».
وكان فرح أنطون بشري النزعة والإيمان، يؤمن بالإنسان ويكره الأساطير الغيبية بل يشمئز منها. وكان يمتاز بالذهن الاستطلاعي يرود كل جديد في الثقافة الأوروبية. فهو أول من كتب عن نيتشه. وأظن أني أنا كنت الثاني؛ لأن أول مقال صحفي لي كان في «المقتطف» سنة 1909 بعنوان «نيتشه وابن الإنسان» وقد وصلت إلى نيتشه مستقلا وأنا بأوروبا.
ولذلك عقب عودتي من أوروبا واتصالي به كنت لا أجد موضوعا أختلف فيه معه. وكنا نتحدث عن الاشتراكية والنزعات الأدبية الجديدة والسياسة في مصر، فنكاد نتفق في كل شيء حتى في العقيدة الدينية.
وفيما بين 1907 و1910 ظهرت قوة جديدة في مصر كان لها أثر آخر في توجيهي النفسي، وكانت هذه القوة أحمد لطفي السيد؛ ففي تلك السنين كانت الوطنية المصرية في طور اليرقة لم تنسلخ بعد إلى الجسم الحي الكامل. وكانت عرضة لأخطار شتى وتطوحات مختلفة. وحسب القارئ أن يعرف أن كلمة «وطنية» ليست عربية وأننا إنما سككنا هذه الكلمة كي نعبر بها عن وجدان جديد؛ ذلك أن مصر في بداية هذا القرن كانت لا تزال في أسر الماضي. وكانت الدولة «العثمانية» هي دولتنا التي كنا نكافح بها الإمبراطورية البريطانية. وكان بيننا متنبهون تعلموا في المدارس الفرنسية أو نبهتهم الحوادث وأيقظت فيهم وجدانا وطنيا، فلم يكونوا يسيغون منطق اللواء والمؤيد في الدفاع عن استقلال مصر بحق الأتراك في سيادتها. وكان الأقباط ينفرون من هذه الوطنية العثمانية نفورا عظيما.
وظهر لطفي السيد في الجرائد يدافع عن هذه البديهية الواضحة، وهي أن مصر يجب أن يملكها المصريون دون الأتراك ودون الإنجليز. ووجد في الأول مصادمة قوية من الكتاب الذين ألفوا الدعاية للأتراك ولكن سرعان ما انتصر وظفر بالرأي العام في مصر. ووجد الأقباط منطقا في هذه الوطنية كما وجد المثقفون فيها أملا جديدا يعبئ الأمة للإصلاح والتجديد فأقبلوا على الجريدة وشغفوا بمقالات لطفي السيد فيها.
وكثير من القراء في أيامنا - أي بعد نحو 35 سنة من هذه الحركة - لا يعرفون مقدار هذه الحركة وفضل أحمد لطفي السيد فيها؛ ذلك أننا جميعا قد اعتنقنا هذه الوطنية الجديدة - وطنية مصر للمصريين - ولم نعد نعرف غيرها. ولكن على القارئ أن يذكر أن الدولة «العثمانية» كانت شيئا أكبر من تركيا الحاضرة. وكانت إمبراطورية شاسعة لها جيوش وموظفون في اليمن والحجاز والعراق وطرابلس. وكانت الرحلة السنوية إلى إستامبول أو كما كان يصفها الصحفيون وقتئذ «دار السعادة» لا تقل في عدد المسافرين المتنزهين عن الرحلة إلى باريس . وكان حبل الدسائس لا ينقطع بين القاهرة وإستامبول. ولكنه مع ذلك كان واهيا ، كما كانت هذه الدسائس عقيمة.
Unknown page