تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات شرح شواهد الكشاف تأليف الأستاذ محب الدين أفندي رحمه الله وأثابه رضاه آمين شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده
Page 311
(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا " ومبشرا " ونذيرا ") (قرآن كريم) بسم الله الرحمن الرحيم يا من قامت على وحدانيته الشواهد، وفى كل شئ له آية تدل على أنه واحد; تنزه في ذاته عن المثال، وتقدس في صفاته أن يتصوره وهم أو خيال، صل على سيدنا محمد أفصح العرب، وعلى آله وأصحابه أهل البلاغة والأدب، صلاة نبلغ بها أسنى المقاصد، وتكون لنا في اليوم المشهود أعظم شاهد.
وبعد: فغير مستور ولا خاف أن الشواهد الواقعة في الكشاف كثيرا ما يحفظ منها أبيات، لكن لا يعلم ما استشهد بها عليه من الآيات; ويعزب عن البال استحضار تلك الموارد والآيات التي قامت منها عليها شواهد، وطالما رأيت من يحفظ البيت بقلبه وهو يدور عليه; وربما يوجد في البيت ساكن بل يلتقى فيه ساكنان ولم يهتديا إليه; وقد وقفت لبعضهم على شرح شواهد الكتاب إلا أنه لم يذكر فيه آية تدل على ذلك البيت ليعلم الدخول إليه من أي باب، فيحتاج عند كل بيت إلى مراجعة محله من التفسير، ويصرف في استخراجه لتزيل الآية عليه زمن كثير، فوجدت أن تسهيل الطريق إلى البيت أمر يتحم، وجردت الأبيات من محلها ورتبها على حروف المعجم، وكتبت تلك الآية ليعرف منها الشاهد ويعلم، ويدرى ذلك البيت بأدنى تنبيه، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه. على أنه لم يفت الشارح المذكور من الأبيات إلا الثمد والسبد واللمم، أو ما أغفل منها فلم يجر عليه القلم; ثم إني أبسط العذر عند مطالع هذا الكتاب، عن شرح بعض الأبيات بطريق الإسهاب، وضم سابق الشاهد ولا حقه إليه، والميل أحيانا إلى عطف ذلك عليه، فإنه ربما دعت له المناسبة، وكان بين البيت وما يليه من كل جهة أفعال المقاربة وكدت لذكر البيت مع ما يناسبه; تكلمني أحجاره وملاعبه، وكأن لسان حاله ينشد في هذا المقام مخاطبا ، ويتمثل ببيت جرير معاتبا:
تمرون الديار ولم تعوجوا * كلامكم على إذا حرام فلم أر بدا من أن أعطف البيت على سابقه لحق الجوار، وأبين معناه مجانب الإكثار، وقد يكتفى بشطر البيت فأولى وجه النظر شطره، أو يقتصر على محل الشاهد من العجز فأشرح صدره، لكمال اتصاله به وائتلافه، ومعلوم أن مقام البسط يباين مقام خلافه، وما تلك قضية منكورة، بل قصة معروفة مشهورة، فلعل الواقف عليه يغضى عما يجده من الخلل، ولا يعد ذلك تطويلا يوجب الملل، والله المسؤول أن يوفقني لصالح القول والعمل ثم من المقرر أن وجه التسمية لا يلزم اطراده، ولكني أردت أن أسمى هذا الكتاب باسم يحسن وقعه وإيراده، فسميته [تنزيل الآيات على الشواهد من الأبيات].
Page 313
ولنقدم قبل الشروع في المقصود مقدمة وهى أنا لمحنا في الديباجة ببعض ألفاظ تحتاج إلى إفصاح. ولوحنا إلى مقاصد تفتقر إلى إيضاح، وهى قولنا على أنه لم يفت الشارح المذكور من الأبيات إلا الثمد والسبد واللمم، أو ما أغفل منها فلم يجر عليه القلم; أما الثمد فهو تلميح إلى بيت أغفله في سورة مريم عند قوله تعالى (وآتيناه الحكم صبيا) وهو بيت النابغة الذبياني:
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت * إلى حمام سراع وارد الثمد وأما السبد فهو تلميح إلى بيت أغفله في سورة عند قوله تعالى (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) وهو قوله:
سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا * فكيف لو قد سعى عمرو عقالين لأصبح الناس أوبادا ولم يجدوا * عند التفرق في الهيجا جمالين وأما اللمم فهو تلميح إلى بيت أغفله في سورة النجم عند قوله تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) وهو قوله:
لقاء أخلاء الصفاء لمام * وحبل وصال الغانيات رمام وأما قولنا أو ما أغفل منها فلم يجر عليه القلم، فهو إيماء إلى بيتين أوردهما المصنف من نظمه في سورة القلم حيث قال يعنى نفسه. ولبعضهم في صفة القلم: ورواقم رقش إلى آخر البيتين; ثم لا يخفى على من ذاق هذا الكلام وتأمله أن في هذه الألفاظ ما يلوح إلى قلة ما أغفله.
ونسأل الله تعالى أن يوسع علينا فضله، ويوقظنا من سنة الغفلة، ويعصمنا من الزلل والخطأ، وأن لا نكون ممن اتبع هواه وكان أمره فرطا، والله تعالى ولى التوفيق، والهادي بالعناية إلى أقوم طريق، وهو حسبي ونعم الوكيل:
سورة الفاتحة (باسم الذي في كل سورة سمه * قد وردت على طريق تعلمه) هذا البيت ثاني أبيات الكشاف، وإنما ابتدأنا به هنا تبركا باسمه سبحانه وتعالى، والبيت لرؤبة بن العجاج.
والشاهد فيه كون الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة لئلا يقع ابتداؤهم بالساكن، وإذا وقعت في الدرج لم تفتقر إلى زيادة شئ واستغنى عنها بتحريك الساكن، وبعد البيت:
أرسل فيها بازلا يقرمه * فهو بها ينحو طريقا يعلمه أي أرسل بازلا في حال كون المرسل قرمه: أي تركه على المعل للفحلة فالبازل يقصد بتلك الإبل طريقا يعلمه لأنه ألف ذلك العمل: أي الجماع، والبازل الذي انشق نابه، وذلك في السنة التاسعة وربما بزل في الثامنة، وبعد الآن نشرع في شرح الأبيات على ترتيب الحروف.
Page 314
حرف الألف (ويصعد حتى يظن الجهول * بأن له حاجة في السماء البيت لأبى تمام في سورة البقرة عند قوله تعالى (صم بكم عمى فهم لا يرجعون) فإن المنافقين لما وصفوا بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى وعقب ذلك بتمثيل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة حول المستوقد والضلالة التي اشتروها بذهاب الله بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، فكأنهم من حيث سدوا مسامعهم عن الإصاخة لما يتلى عليهم من الآيات والذكر الحكيم وأبوا أن يتلقوها بالقبول وينطقوا بها وأصروا على ذلك صاروا كفاقدي تلك المشاعر بالكلية كقوله:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به * وإن ذكرت بشر عندهم أدنوا أصم عن الشئ الذي لا يريده * وأسمع خلق الله حين يريد وهذا عند مفلق سحرة البيان من باب التمثيل البليغ المؤسس على تناسى التشبيه كما في قول أبى تمام في مدح خالد ابن يزيد الشيباني ويذكر أباه، وهذا البيت في مدح أبيه وذكر علوه فإنه استعمار الصعود لعلو القدر والارتقاء في معارج الكمال، ثم بنى عليه ما يبنى على علو المكان من الارتقاء إلى السماء في مدارج الحاجة في السماء، وليس ذلك من قبيل الاستعارة التي يطوى لها ذكر المستعار بالكلية، حتى لو لم يكن هناك يكن قرينة كدلالة الحال أو فحوى الكلام يحمل على المعنى الحقيقي كقول زهير: لدى أسد شاكي السلاح مقذف * له لبد أظفاره لم تقلم (يوحون بالخطب الطوال وتارة * وحى اللواحظ خيفة الرقباء) في سورة البقرة عند قوله تعالى (فهم لا يرجعون أو كصيب) حيث ثنى الله تعالى في شأنهم بتمثيل آخر ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، وإيضاحا غب إيضاح، وكما يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل والإشباع أن يفصل ويشبع كما في الجاحظ يوحون الخ. قيل لأبى عمرو بن العلاء: لما كانت العرب تطنب؟ فقال: ليسمع منها، فقيل: فلم توجز؟ قال: ليحفظ عنها; ومن هذا القيل ما أورد من تجاهل العارف كالمبالغة في المدح في قول البحتري يمدح الفتح بن خاقان:
ألمع برق بدا أم ضوء مصباح * أم ابتسامتها بالمنظر الضاحي أو التدله في الحب كقول العرجي:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا * ليلاي منكن أم ليلى من البشر وما أحسن القاضي الفاضل يمدح الملك العادل أبا بكر بن أيوب:
أهذه سير في الفضل أم سور * وهذه أنجم في السعد أم غرر وأنمل أم بحار والسيوف بها * موج وافرندها في لجها درر وأنت في الأرض أم فوق السماء وفى * يمينك البحر أم في وجهك القمر إلى غير ذلك من مستظرفات الأمثال:
Page 315
(فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * ومن بعد أرض بيننا وسماء) في سورة البقرة عند قوله تعالى (أو كصيب من السماء) حيث جاء بالسماء معرفة; لينفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من سائر الآفاق لأن كل أفق من آفاقها سماء، قال تعالى (وأوحى في كل سماء أمرها ) ولو نكر السماء لجاز أن يكون الصيب من بعض الآفاق بدليل قوله * فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها * الخ. الشاعر يتوجع لذكر الحبيبة ومن بعد ما بينه وبينها من قطعة أرض وقطعة سماء تقابل تلك القطعة الأرض فنكرهما، إذ لا يتصور بينهما بعد جميع الأرض والسماء; وأوه كلمة توجع تستعمل مع اللام، وقد اتفق للشاعر استعمالها معها في بيته وربما قصد ذلك فلله دره، ومنه يقال أوه الرجل تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه، والاسم الآهة بالمد، قال المثقب العبدي:
إذا ما قمت أرحلها بليل * تأوه آهة الرجل الحزين يقال رحلت البعير أرحله إذا شددت عليه الرحل، وهذا البيت لم يذكر في شرح الشواهد:
لا تزدرين في من أن يكون له * أم من الروم أو سوداء عجماء (فإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللأبناء آباء) في سورة البقرة عند قوله تعالى (وعلى المولود له) أي على الذي يولد له وهو الوالد وله في محل الرفع على الفاعلية نحو عليهم في (المغضوب عليهم) وإنما قال المولود ليعلم أن الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، فلا تزدرين بأحد أنه ولد من أمة رومية أو سوداء هندية. قيل عاب هشام زيد بن علي فقال: بلغني أنك تريد الخلافة وكيف تصلح لها وأنت ابن أمة؟ فقال: كان إسماعيل ابن أمة وإسحق ابن حرة، فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم. وأنشد المأمون ابن الرشيد البيت في مثل ذلك، وما أحسن ما قيل في معنى ذلك:
وهل هند إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تحللها بغل فإن ولدت مهرا كريما فبالحري * وإن كان إقراف فما أنجب الفحل ولذلك ترى المفتخرين بالأنساب فيما مضى وما هو آت، إنما يفتخرون بالآباء لا بالأمهات كما قال الفرزدق:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع ومنهم من لا يفتخر لا بالآباء ولا بالأمهات، وإنما يفتخرون بالفضائل والكمالات كما قال:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه * على ما تجلى يومه لا ابن أمسه وما الفخر بالعظم الرميم وإنما * فخار الذي يبغي الفخار بنفسه وما أحسن ما قيل وإني وإن كنت ابن سيد عامر * وفارسها المشهود في كل موكب فما سودتني عامر عن وراثة * أبى الله أن أسمو بأم ولا أب (ألم أك جاركم ويكون بيني * وبينكم المودة والإخاء)
Page 316