بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
أطال الله بقاءك في العز والسرور، والأمن والحبور، وأدام نسمتك مُعانًا على ابتناء المكارم، واصطناع المحامد، وأقرَّ بها عينك في زيادة من القدر، ونباهةٍ من الذكر، وبلغك أمانيك محروسًا من المكاره والغِيَر، وأطاب عيشك في تراخي الأمد، وبُعد المهل، مؤيدًا بالتوفيق في القول والعمل.
سألت، أنجح الله سؤلك، أن أذكر لك سبب حدوث التصحيف في الخط العربي، واعتراض اللبس في تهجَّيه، حتى اضطروا على ممر السنين عليه، إلى توليد النقط والإعجام فيه، وقلت: قد فضح التصحيف في دولة الإسلام خلقًا من القضاة والعلماء والكتَّاب والأمراء وذوي الهيئات من القرّاء؛ كحيان بن بشر قاضي أصفهان، وقد تولى قضاء الحضرة أيضًا، فإنه كان روى لأصحاب الحديث أن عَرْفَجَة قُطع أنفُهُ يومَ الكلاب، وكان مستمليه رجلًا يقال له كَجَّة، فقال: أيها القاضي إنما هو يوم الكُلاب - كغُراب -[موضع وماء] فأمر بحبسه، فدخل
1 / 1
الناسُ إليه، وقالوا: ما دهاك؟ فقال: قُطع أنف عرفجة يومَ الكُلاب في الجاهلية، وامتُحنتُ أنا به في الإسلام؛ وكان أحمد بن موسى بن إسحاق من جلّة قضاة السلطان؛ فانه أملى بأصبهان على أصحاب الحديث؛ حدثني فلان بن فلان عن هندٍ: أن المعتوه، يريد؛ عن هند؛ أن المغيرة.
وزعمتَ أن المحدثين بالبصرة غبروا زمانًا يروون أن عليًا (رض) قال: ألا إن خراب بصرتكم هذه يكون بالريح. فما أقلعوا عن هذا التصحيف إلا بعد مائتي سنة عند معاينتهم خرابها بالزنج، وأن كثيرًا من رواة الحديث يروون أن النبي ﷺ قال: تختّموا بالعقيق، وإنما قال: تخيّموا بالعقيق، وهو اسم وادٍ بظاهر المدينة، وأنك سمعت رجلًا من جلّة المحدّثين يروي أن مرحبًا اليهودي قتله عليّ يوم حنين وإنما قتله يومَ خيبر، وأن محدثًا يروي أن رسول الله ﷺ كان يكره النَّوم في القدر، وإنما كره ﷺ الثوم في القِدْر، كما روى آخر أن رسول الله ﷺ، كان يستحب العَسَل في يوم الجمعة، وإنما كان يستحب الغُسل فيه، وإن رجلًا آخر روى أنه قال ﷺ: الجار أحق بصفته وإنما هو بصَقيه كما روى من روى أن رسول الله ﷺ: بلع قديدًا، يريد: بلغ قُديدًا وروى آخر: لا بأس أن يصلي الرجل في كمّه سنّورة، وإنما هي سبّورة وهي الألواح من الأبنوس يكتب فيها
1 / 2
التذكرات. وروى آخر: لعن الله اليهودَ، حرمت عليهم الشحوم فحملوها، وإنما هي: فجملوها أي أذابوها، وروى آخر: من أنزلت إليه نعمة فليشكرها، وإنما هو: أُزِلّت، أي أُسديت. ورووا: عم الرجل ضيق أبيه، وإنما هو: عم الرجل صنو أبيه أي شبهه، ورووا أن الحارث بن كَلَدَة كان يقعد في مقتأةٍ له، وإنما هو: مقناةٍ له، وهي كل موضع يواجه مدار بنات نعش فلا تقع فيه الشمس وإن الحارث بن كَلَدَة كان يقول: الشمس تنقل الريح، وإنما هو: تنفل. ورووا أنه نُهي عن لبس القِسِيِّ، وإنما هو: القَسِيُّ وهو ثوب رقيق النسيج قبطي منسوب إلى قرية من قرى مصر تسمى قَسا، كما أن الشطوي منسوب إلى قرية هناك تسمى شَطَا، والديبقي إلى قرية تسمى ديبقا، وإن الشيرجي، وكان إمامًا من أئمة الحنبلية اجتاز بمسجد فيه مُعَزّى، فخرج عليه منه نحويّ بغيض، فقال له الشيرجي: من المتوفي؟ فقال النحوي: اللهُ، فلبّبه وقال: زنديق والله ورفعه إلى صاحب الجسر، ورووا أن أعرابيًا أتى النبي ﷺ وعلى يده سخلةُ تبعر، وإنما هو: تَيْعر أي تعوَت، واليُمار صوت اليَمْر وهو الجدي.
1 / 3
وزعمت أنك حضرت رجلًا من الكبراء وقد قرأ في المصحف ﴿يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والديك﴾ فخالف قول الله ﷿ ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب﴾ وأن عبد الله بن أحمد بن حنبل تقدم قومًا يصلي بهم فقرأ ﴿اقرأ باسم ربك الذي خُلق﴾ فقال له قائل: أبوك ضرب بالسياط على أن يقول كلام الله مخلوق، وقد جعلت خالق الأشياء مخلوقا! وأنه قرأ يومًا آخر ﴿هو الله الخالق البارئ المصور﴾، وقرأ آخر ﴿والماديات صبحا﴾ كما قرأ آخر ﴿وفرش مرقوعة﴾ وقرأ آخر ﴿وأخذ برأس أخيه يجزه إليه﴾ كما قرأ آخر ﴿فكذبوهما فعزرنا بثالث﴾.
وذكرتُ أن إبراهيم بن أرومة الأصبهاني حكى أن عثمان بن أبي شيبة قرأ ﴿جعل السقاية في رجل أخيه﴾، وقرأ ﴿وما علّمتم من
1 / 4
الخوارج مكلبين﴾ وقرأ ﴿واتبعوا ما تبلو الشياطين على ملك﴾. وإن الوليد ابن عبد الله صلَّى بالناس وهو خليفة فقرأ في أم الكتاب ﴿صراط الذين أنعمتُ عليهم﴾ وقرأ يومًا آخر على المنبر ﴿يا ليتها كانت القاصية﴾ فسمعها عمر بن عبد العزيز فقال: يا ليتها كانت بك.
ثم قلت: ودع هؤلاء، هذا حماد الرواية سمى بشارُ الشاعر به إلى عقبة بن أسلم أمير البصرة أنه يروي جلّ أشعار العرب ولا يحسن من القرآن غير أم الكتاب فامتحنه الأمير بتكليفه القراءة في المصحف فصحَّف فيه عدَّة آياتٍ لم يبق على الحفظ منها إلا عدة وعشرون حرفًا وهي:
﴿وأوحى ربك إلى النخل أن اتخذي من الجبال بيوتًا﴾ و﴿من الشجر ومما يفرشون﴾ ﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه﴾ و﴿ليكون لهم عدوًا وحربًا﴾ و﴿ما يجحد بآياتنا إلا كل جبار كفور﴾ و﴿بل الذين كفروا في غرّة وشقاق﴾
_________
(١) سورة ٥ آية ٥ والصحيح من الجوارح.
1 / 5
و﴿فعززوه ونصروه﴾ و﴿تُعزّزوه وتوقروه﴾ و﴿لكل امرئ منهم يومئذ شأنٍ يغنيه﴾، ﴿هم أحسن أثانًا وزيًا﴾ و﴿قال عذابي أصيب به من أساء﴾ و﴿يوم يحمى غليها في نار جهنم﴾ و﴿فادوا ولات حين مناص﴾ و﴿تبلوا أخبارهم﴾ و﴿صيغة الله ومن أحسن من الله صيغة﴾ و﴿فاستعانه الذي من شيعته على الذي من عدوه﴾ و﴿سلام عليكم لا نتبع الجاهلين﴾، ﴿لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها﴾ و﴿أهليكم أو كأسوتهم﴾ و﴿يا ويلنا من بلغتنا من مرقدنا هذا ...﴾ و﴿قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العائذين﴾ ويروى العائدين.
وقالت: ولأهل اللغة أيضًا تصحيفات تضحك السامعين وسار بها أشعار تروى على الأزمان منها:
1 / 6
أن أبا حاتم حكى عن نفسه أنه كان يقرأ شعر المتلمِّس على الأصمعي.
وأراد أن يقول:
أغنيتُ شأني فأغنوا اليوم شأنكم ... واستحمقوا من مراس الحرب أو كيسوا
فقال: أغنيت شأني، فقال الأصمعي، بالعجلة: فأغنوا اليوم تبسكم إذًا، وأشار إلى أبي حاتم فأضحك منه الحاضرين.
وقال أبو حاتم: كنت أختلف مع أبي عبيدة والأصمعي إلى ذوي الأشراف بالمربد من رهط سليمان بن علي للاستماع إلى ما يقرأ عليهما من الكتب، فقرأ على أبي عبيدة يومًا سليمان بن جعفر شعر عبيد فقال: حال الحريص دون القريض فقال أبو عبيدة: الحرص شؤم وتغافل.
وقرأ عليه يومًا آخر في شعر عنترة:
ذهب الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببينهم الغرابُ الأنقع
فقال أبو عبيدة: تعس الغراس ولم يزد عليه.
1 / 7
وقرأ مسلم بن سعيد بن مسلم يومًأ على الأصمعي:
عَرَفت بأعشاشٍ وما كنت تعرِف ... وأنكرتَ من أسماء ما كنت تعرف
فقال الأصمعي: كذا يقال الشعر؛ ولم يفطنه.
وقال المبرد: أخبرني المازني أن خلفًا الأحمر حضر يومًا يونس والفيضُ بن عبد الحميد يقرأ عليه:
عذيرَ الحيّ من عَدْوا ... نَ كانوا جنة الأرض
فقال له خلف الأحمر: صحّفت إنما هو (حية الأرض) على طريق التجنيس والمطابقة، فلم يقبله وأقلم على روايته، ولمْ فيها ونصره عليه المتنبي فقال خَلَفٌ فيهما:
لنا صاحبٌ مولعُ بالخلاف ... كثيرُ الخطاء قليلُ الصواب
أشدٌ لجاجًا من الحنفساء ... وأزهي إذا ما مشى من غراب
1 / 8
ذا عضهوا عنده عالمًا ... رَبَا جسدًا ورماهُ بعاب
وليس من العِلم في كفِّه ... إذا ذُكرَ العلمُ غيرُ التراب
أضاليلُ ألّفها شوكرٌ ... وأخرى مؤلفةٌ لابنِ داب
فلو كان ما قد روى عنهما ... سماعًا ولكنَّه من كِتَاب
رأى أحرفًا شبهتْ في الهجاء ... سواءً إذا عدها في الحساب
فقال (أبي الضيم) يُكنى بها ... وليست (أبي) إنما هي (آبي)
وفي يوم (صِفينَ) تصحيفةٌ ... وأخرى له في حديث (الكُلابِ)
كتصحيف فيض بن عبد الحميد ... في (جنة الأرض) أو في الذباب
وما جِنّةُ الأرضِ من (حيةٍ) ... وما للذُبابِ وصوتِ (الذِّئابِ)
وعالى بذلك في صوتهِ ... كمعمعةِ الرعد بين السحاب
وعدلت إلى ذكر تصحيف الكتاب فزعمت أن (صاحبِ) بريد أصفهان كتب في الخَبَر إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن فائدًا مِمَن بها
1 / 9
من الموالي يلبس خزلجية ويجلس للنساء في الطرقات، فكتب محمد إلى يحيى بن هرثمة، وكان يلي أصفهان من قبله؛ أشخص إلي فلانًا وخزلجيته، فقرأ عليه الكتاب كاتبه محمد بن رسم والد أبي علي الرستمي، وصحّفه إلى (وجزَ لحيته)، فجزّ لحيته وأشخصه، وكان آيةً ونكالًا.
وإن سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله على المدينة: أحْصِ المخنثين قبلك. فوقعت من قلم الكاتب نقطة على الحاس فجعلها خاء فلما ورد الكتاب على والي المدينة قرأ كاتبه: اخص المخنقين، فقال له الأمير: لعله: أحص المخنثين، فقال: أيها الأمير إن على الحاء نقطةٌ مثل سُهيل، فأمر الأمير بإحضار المخنثين للخصاء فتهارب أكثرهم، ووقع أقلُّهم، فكان من مشاهير من وقع، طويس والدلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى ونسيم السحر وضرة الشمس ولعبة العاج وعدة أخر؛ فأما طويس فإنه قال لما خصي: ما عملتم شيئًا فبالخصاء استكملنا الخُناث، وقال الدلال: ضل سعيكم فهذا هو الختان الأكبر، المطرف لولوج الكمر، وقال بردُ الفؤاد: بعدًا وسحقًا لما صرنا به من نساءً حقًا، وقال نومة الضحى: ما كان أغناني عن سلاح لا أقاتل به، وقال نسي السحر: أُفٍ لكم ما سلبتموني إلا ميزابَ بولي.
ثم قلت: فاعجب بنقطة أدخلت رجالًا في عداد النساء، وأكبرتَ ما حل بابن الروعي من تلفه على مصَحَّف مُثل عنه، فزعمت أن القاسم
1 / 10
ابن عبيد الله وزير المكتفي بالله كان تقدم إلى ابن فراس أن يُعابئهُ إذا حضر مجلسه بشيء من المصحّف فساقه الحين إلى الدخول عليه من وقته، فأقبل ابنُ فراس إليه وقال له: كيف بصرك باللغة.
فقال: ما أفلّ ما يشذّ عني منها، فقال له: ما الجُرامص في كلام العرب، فاختلط ابن الرومي وقال على البديهة:
أسألتَ عن خبر الجَرامض ... طالبًا علمَ الجُرامض
فهو الجُراضم حين يقلب ... ضارجٌ فيقال جارض
وهو الجُراسم والقمحر ... أو الحراسف والجراعض
وهو الحزاكل فالقوامِض ... قد تُفَسّر بالغوامض
وهو السلحكل إن فهمت ... وإن ركنت إلى المعارض
فاصبر وإن حمضَ الجوابُ ... فربّ صبر جر حامض
والصفعُ محتاجٌ إلى ... فرعٍ يكون له مقايض
1 / 11
ومن اللحى ما فيه فعلٌ ... للمواسي والمقارض
فدسَّ في طعام عشائه السم فتلف من ليلته.
وقلتَ: وممن صيره التصحيف ضحكة في مجلس الخلفاء أحمد بن أبي خالد الأحول وزير المأمون، وقد كان حضر مجلسه للمظالم يقرأ عليه القصص، وكان نهمًا فمرت به قصة عليه؛ فلان اليزيدي، فقرأها: التربدي، فقال المأمون: أبو العباس جائع هاتوا له ثريدة، فقدمت إليه فأكرهه على أكلها، وغسل يده وعاد في تصفح للقصص فمرت به قصة مكتوب عليها (فلان الحمصي) فقرأ الخبيصي، فقال المأمون: كان غداء أبي العباس غير كافٍ، لابد للثريدة من أن تتبع بخبيصة، فقرّبت إليه فأكرهه على أكلها.
ومنهم شجاع بن القاسم كان قرأ على المتوكل كتابًا فيه (حاضِرُ طَيٍ) فقرأها (جاء ضَرْ طي).
وكان للمتوكل صاحب خَبرٍ يقال له ابن الكلبي، فكان يرفع في الخبر له كل ما سمعه ليمين كان أسلفه إياها، فرفع يومًا إليه (وأن امرأتي خرجت مع حِبّةٍ لها إلى بعضُ المنازه فسكرت حبَّتُها وعربدت عليها وجرحتها في صدغها) وترك (الصدغ) غفلًا غير منقوط، فقرأ (في صدعها)، ثم قال: إنَّا لله يعطل على ابن الكلبي مناكُهُ.
وقرأ على عبيد الله بن زياد كاتبه عبيد الله بن أبي بكرة أنه وجد جماعة من الخوارج في شَرْب، فقال ابن زياد: وكيف لي بأن يكون
1 / 12
الخوارج يرون الشرب أو الحضور عند الشراب، وإنما وجدوا في (سربٍ).
وقلتَ: هؤلاء صرعى التصحيف فمنهم من هلك، وبعض افتضح، ولم يبلغنا أن التصحيف نفع أحدًا إلا في حكاية واحدة جاءت عن الفرزدق فإنهم زعموا أن مولى له ورد عليه البصرة من البادية فأخبره أنه خَلَّفَ بسفوان امرأة قد عاذت بغير أبيه غالب، فرد الفرزدق مولاه من فوره إلى سَفَوَان في اسشخاص المرأة فلما قدمت عليه قال لها: ما الذي دعاك إلى الاستجارة بأبي؟ قالت: ابن لي بالسند قد جمر منذ سنين فزعت في فيكتبه إليك لتتلطف في استيهابه فقال: سمعًا، ثم كتب إلى تميم بن زيد القيني عامل خالد القري على السند:
كتبتُ وعَجَلْتُ البِرادةَ إنني ... إذا حاجة حاولتُ عَجّتْ ركابُها
ولي ببلاد السند عندَ أميرها ... حوائجٌ جمّاتٌ وعندي ثوابُها
1 / 13
فمن تلك أن العامرية ضمها ... وبيتي نوار طالبَ منها اقترابها
أتتني تهادَى بعدَما مالتِ الطُّلى ... وعندي رداحُ الجَوفِ فيها شرابُها
فقلت لها إيهِ اطلبي كلِّ حاجةٍ ... لديّ فعندي حاجةٌ وطِلابُها
فقالت بحزنٍ حاجتي أنَّ واحدي ... حُبيش بأرضِ السندِ خوى سحابُها
فأقفل حُبيشًا واتخذ فيه منَّةً ... لغُصة أمٍ ما يسوغُ شرابُها
تميمُ بن زيد لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليك جوابُها
ولا تقلبنْ ظهرًا لبطنٍ صحيفتي ... فشاهدها فيها عليك كتابُها
فقد عَلِمَ الأقوامُ أنَّكَ فارسٌ ... شجاعٌ إذا ما الحربُ شبَّ ضِرابُها
فلما وردت عليه الأبيات قال للكاتب: أتعرف الرجل؟ فقال: كيف أعرف من لم ينسب إلى أب ولا إلى قبيلة، فقال: فاذهب واحضر بأبي كل من اسمه في الديوان حبيش، أو خنيس، أو حنيش، فأحضرهم وعددهم أربعون فأمر لكل واحد منهم بخمسمائة درهم، فقال: اقفلوا جميعًا إلى حضرة أبي فراس.
قلتُ: والذي عرض من لفظ خنيس، وحنيش، وحبيش، من دخول اللبس عليه، وتمكّن التصحيف فيه قد يعرض في علم النسب مثلُه في أسماء القبائل فإن (شيبان) في ربيعة، و(صبيان) في حمير، و(ضَبَّة)
1 / 14
من الرباب و(ضِنَّة) أخت عذرة.
وزعمت أن حنين بن إسحاق المترجم كان يحتاط فيما يبلغه من أسماء الأدوية ويفزع من الحرف ذي اللبس إلى آخر يضعه مكانه فمن ذلك أنه كان يكتب (السمتر) بالصاد (الصمتر)، ويقول أخاف أن يقرأ (الشعير) فيصير به الدواء داءً.
وعارضت الروايات التي جائت فيمن وضع الخط العربي وقلت: رووا أن أول من وضع الكتابة العربية قوم من الأوائل نزلوا في عدنان ابن أدّ بن أُدد فاستعربوا ووضعوا هذه الكتابة على عدد حروف أسمائهم وكانوا ستة نفر أسماؤهم: أبجد، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت.
وأنهم كانوا ملوك مدين ورئيسهم كلمن فهلكوا يوم الظلّة مع قوم شعيب فقالت أختُ كلمن ترثيه:
كَمَونٌ هدّ ركني ... هلكهُ وَسْطَ المحلهْ
سيدُ القوم أتاه الحتفُ ... نارًا وسطَ ظُلَّه
جُعلت نارًا عليهم ... دارهم كالمضمحلّه
ثم وجد من جاء بعدهم حروفًا ليست من أسمائهم وهي ستة: الثاء، والخاء، والذال، والضاد، والظاء، والغين، فسموها الروادف "ثخذ ضظغ".
1 / 15
واقتضيتَ شيئًا مما يطول به الكتاب للتكرار الذي يقع فيه عند الإجابة عنه؛ وأنا أجيبك عما سألتَ عنه سالكًا فيه طريق الإنصاف، وتاركًا سبيل الضاد، متخلصًا من ركوب المصيب، والركون إلى الفساد واللّجاج وحميّة الجاهلية إن شاء الله.
بسم الله: أما ما دفعتُه من رواية من روى أن أبجد وهوّز وحطي وما بعدها أسماء رجال وضعوا الكتابة العربية فلازم من جهات كثيرة؛ إحداها: أن هذه الكلمات الواقعة على حروف الهجاء أعني أبجد وأخواتها، لم تزل مستعملةٌ على وجه الدهر عند كل أمة وجيل من سكان الشرق والغرب ومتداولة في الأعداد النجومية خاصةً، وبعدُ فهي عند السريانية الأصل الذي يُتعلم منه الهجاء، وقد بقي استعمال ذلك عن الإسرائيليين من اليهود، والنصارى يدرسونه الصبيان في الكنائس فيقولون عند تعليمهم هجاء العبرانية الف، با، كمل، دال ....
ثم يتبعونه بما يجئ بعده من قولهم: هوز، حطي ... على حكاية لغتهم، وهذا الذي عرَّبه عرب الإسلام، فقالوا (أبجد) مكان: ألف، با، كمل، دال.
وقال ابن دريد: في حروف الهجاء العربي حرفان لا يجريان إلا على لسان العرب ولا يوجدان في لغات سائر الأمم وهما الظاء والحاء فخالفه بعض من كان يناوئه وقال الحاء موجودة في لغات ثلاث من الأمم؛ السريانية والعبرانية والحبشية.
1 / 16
وقال غير ابن دريد، الصاد لا تقع في لغة الروم، كما أن الضاد لا تقع في لغة الفرس، والذال لا تقع في لغة السريانيين، كما أنه لا يقع في لغة العرب لام بعدها شين، كما لا يقع فيها حرفان من حروف التهجي لفظهما واحد متجاورين في الأسماء والأفعال: شش، وكك .. وقد يقمان في أواخرها نحو نِكَك وصَكَك ومَشَش إلا في أسماء أصلها فارسية نحو: (بَبَان) و(دَدَان) و(ددٍ)، كما أنه لا يقع الذال في لغة الفرس في أوائل الأسماء والأفعال وإنما يقع في أواخرها وأواسطها.
والجهة الثانية: أن أصول الهجاء العربي ليست عل نسق تأليف وأصول هجاء السريانيين الذين هو: أبجد هوز .... لأن هجاء العرب مؤسس على: ابتث، جحخد، ذرزس، شصضط، ظعغف، قكلم، نوهي. هذا هو قياس:
اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ض ط ظ ع غ ف ق ك ل م ن هـ وي.
له، ألِّف من حروفها جُمَلٌ تجري في العربية مجرى أبجد في السريانية. والجهة الثالثة أن هذا الخبر صادر عن رجل كان يولد الأخبار
1 / 17
على الأمم الذين بادوا كعادٍ وثمود، وطسم وجديس، وأضرابهم، فإذا احتاج إالى توليد أشعار يؤكد بها تلك الأخبار خرج إلى ظاهر المدينة لامتحان الأعراب ملتمسًا من يحسن قول الشعر فإذا عثر على واحد عدل به إالى منزله فغدَّاه وكساه وحباه ثم سأله أن يقول شعرًا من جنس ما يريده فكانوا يعملون له مثل:
كَلَمونٌ هدّ ركني ... هلكهُ وَسْطَ المحلهْ
وهذا الرجل هو الذي ادعى على آدم ﵇ أنه كان شاعرًا وروى له:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجهُ الأرض مغيرٌ قبيحُ
تغَيّرَ كلُّ ذي طعمٍ وريح ... وقلَّ بشاشةُ الوجهِ المليح
وبُدّل أهلُها أثلًا وخَمْطًا ... بجناتٍ من الفردوس فيح
وجاورنا عدوٌ ليس ينأى ... لعينٌ ما يموت فنستريحُ
فلولا رحمةُ الخلاق أضحى ... يكفي من جنان الخلد ريحُ
فيا أسفي على هابيلَ إبني ... قتيلًا قد توسدَ في الضريح
فنسل بغباوته إلى نبيٍّ من أنبياء الله شعرًا ركيكًا واهي الركن ضعيف الأسر ذا إقواء ولم يعلم أن الإقواء من أكبر عيوب العشر وليت شعري ما معنى قوله: تغير البلاد؟ وأين رقاع هذه البلاد؟ ومن كان بانيها؟ وماذا أراد بقوله: ومن عليها؟
1 / 18
وقد جاءت روايات عارية من المحال يقبلها القلب من أن واضع الكتابة العربية مرامر بن مرة قبيل دولة الإسلام، وكان رجلًا من أهل الأنبار، فوقعت من الأنبار إلى الحيرة، ومن الحيرة إلى مكة والطائف، وجاءت رواية أخرى تؤيد هذه، فروي عن يحيى بن جمدية أنه قال سألت المهاجرين: من أين صارت إليكم الكتابة بعد أن لم تكونوا كَتَبة، فقالوا: من الحيرة، وسألنا بعدُ أهل الحيرة: ممَّن أخذتموها، فقالوا: من أهل الأنبار، وفي رواية ابن الكلبي والهيثم بن عدي: أن الناقل لهذه الكتابة من العراق إلى الحجاز كان حرب بن أمية وكان قدم الحيرة قدمة فعاد إلى مكة بها.
قالا: وقيل لأبي سفيان بن حرب ممّن أخذ أبوك هذه الكتابة؟ فقال: من أسلم بن سِدرة وقال: سألت أسلمَ: ممّن أخذت هذه الكتابة؟ فقال: من واضعها مرامر بن مرة. فحدوث هذه الكتابة
1 / 19
للعرب قبل الإسلام صحيح يؤيده حدوث آلات أخر لهم لم تكن من قبل منها (الخطابة) و(البلاغة) و(قول الشعر) فإن هذه الأشياء كلها قريبة من ميلادل إقبال دواتهم، وقد كانوا غبروا بباديتهم الدهر الأطول وهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون؛ وكانت لحمير كتابة تسميها (المسند) منفصلة غير متصلة، وكانت حمير أمة على حدة، مباينة للعرب باللغة اليسيرة، بعيدة الدار من ديارهم، في منقطع التراب، على شاطئ البحر، وجيرانهم فيها الحبشة والزنج وأمم أخر من السودان، وكانوا مع ذلك يمنعون تعلم هذه الكتابة على العامة فكان لا يتعاطاها إلا من يؤذن له في تعلمها فلذلك دخلت دولة الإسلام وليس بجميع اليمن من يقرأ بها ويكتب .....
وجل كتابات الأمم من سكان الشرق والغرب والجرب والجنوب اثنتا عشرة كتابة وهي:
العربية، والحميرية، والفارسية، والعبرانية، والسريانية، واليونانية، والروسية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية، والهندية، والصينية.
فخمس منها اضمحلت وبطل استعمالها وذهب من يعرفها وهي:
الحميرية، واليونانية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية.
وثلاث قد بقي استعمالها في بلادها وعلم من يعرفها في بلدان الإسلام وهي: الروسية، والهندية، والصينية.
1 / 20