بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة فريد دهره ووحيد عصره جمال الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن الْحسن الْإِسْنَوِيّ امتع الله بِبَقَائِهِ الْمُسلمين الْحَمد لله مزيل أعذار الْمُكَلّفين بإرشاد الْعُقُول وتمهيد الْأُصُول مقيل عثار الْمُجْتَهد مِنْهُم فِيمَا يعْمل بِاجْتِهَادِهِ أَو يَقُول وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة تنيل قَائِلهَا أعظم سَوَّلَ وأبلغ مأمول وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أكْرم نَبِي وأشرف رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه ذَوي السَّيْف المسلول وَالْفضل المبذول وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا وَبعد فَإِن أصُول الْفِقْه علم عظم نَفعه وَقدره وَعلا شرفه وفخره إِذْ هُوَ مثار الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة ومنار الْفَتَاوَى الفرعية الَّتِي بهَا صَلَاح الْمُكَلّفين معاشا ومعادا ثمَّ إِنَّه الْعُمْدَة فِي الِاجْتِهَاد وأهم مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ من الْموَاد كَمَا نَص عَلَيْهِ الْعلمَاء وَوَصفه بِهِ الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء وَقد أوضحه الإِمَام فِي الْمَحْصُول فَقَالَ

1 / 43

أما علم الْكَلَام فَلَيْسَ شرطا فِي الإجتهاد لعدم ارتباطه بِهِ وَكَذَلِكَ علم الْفِقْه لِأَنَّهُ نتيجته بل يشْتَرط فِيهِ أُمُور وَهُوَ أَن يعرف من الْكتاب وَالسّنة مَا يتَعَلَّق بِالْأَحْكَامِ وَيعرف الْمسَائِل الْمجمع عَلَيْهَا والمنسوخ مِنْهَا وَحَال الروَاة لِأَن الْجَهْل بِشَيْء من هَذِه الْأُمُور قد يُوقع الْمُجْتَهد فِي الْخَطَأ وَأَن يعرف اللُّغَة إفرادا وتركيبا لِأَن الْأَدِلَّة من الْكتاب وَالسّنة عَرَبِيَّة وشرائط الْقيَاس لِأَن الِاجْتِهَاد مُتَوَقف عَلَيْهِ وَكَيْفِيَّة النّظر وَهُوَ تَرْتِيب الْمُقدمَات فَأَما الْخَمْسَة الْأَوَائِل فَيَكْفِي فِيهَا أَن يكون عِنْده تصنيف مُعْتَمد فِي كل وَاحِد مِنْهَا يرجع إِلَيْهِ عِنْد حُدُوث الْوَاقِعَة فَإِذا رَاجع ذَلِك فَلم يجد فِيهَا غلب على ظَنّه نفي وجوده حَتَّى بَالغ الرَّافِعِيّ وَقَالَ إِنَّه يَكْفِي فِي علم السّنة أَن يكون عِنْده سنَن أبي دَاوُد وَالَّذِي قَالَه مُتَّجه فَإِن ظن الْعَدَم يحصل بِعَدَمِ وجوده فِيهِ وَالظَّن هُوَ الْمُكَلف بِهِ فِي الْفُرُوع وَبَالغ النَّوَوِيّ فِي الرَّد عَلَيْهِ فِي تمثيله بسنن أبي دَاوُد لتوهمه من كَلَامه خلاف مُرَاده وَأما اللُّغَة فَالْمُعْتَبر مِنْهَا معرفَة الْمُفْردَات

1 / 44

الْوَاقِعَة فِي الْكتاب وَالسّنة وَمَعْرِفَة فهم التراكيب من الفاعلية والمفعولية وَالْإِضَافَة وَنَحْو ذَلِك دون دقائق العلمين وَهَذَا الْمِقْدَار يسير جدا وَمَعَ ذَلِك فَالشَّرْط هُوَ الْقُدْرَة على الِاطِّلَاع عَلَيْهِ عِنْد الِاحْتِيَاج اليه لَا حفظه وترتيب الْمُقدمَات أَيْضا يسير وَأما شَرَائِط الْقيَاس وَهُوَ الْكَلَام فِي شَرَائِط الأَصْل وَالْفرع وشرائط الْعلَّة وأقسامها ومبطلاتها وَتَقْدِيم بَعْضهَا على بعض عِنْد التَّعَارُض فَهُوَ بَاب وَاسع تَتَفَاوَت فِيهِ الْعلمَاء تَفَاوتا كثيرا وَمِنْه يحصل الِاخْتِلَاف غَالِبا مَعَ كَونه بعض أصُول الْفِقْه فَثَبت بذلك مَا قَالَه الإِمَام أَن الرُّكْن الْأَعْظَم وَالْأَمر الأهم فِي الِاجْتِهَاد إِنَّمَا هُوَ علم أصُول الْفِقْه وَكَانَ إمامنا الشَّافِعِي ﵁ هُوَ المبتكر لهَذَا الْعلم بِلَا نزاع وَأول من صنف فِيهِ بِالْإِجْمَاع وتصنيفه الْمَذْكُور فِيهِ مَوْجُود بِحَمْد الله تَعَالَى وَهُوَ الْكتاب الْجَلِيل الْمَشْهُور المسموع عَلَيْهِ الْمُتَّصِل إِسْنَاده الصَّحِيح إِلَى زَمَاننَا الْمَعْرُوف بالرسالة الَّذِي أرسل الإِمَام عبد الرَّحْمَن بن مهْدي من خُرَاسَان إِلَيّ الشَّافِعِي بِمصْر فصنفه لَهُ وتنافس فِي تَحْصِيله عُلَمَاء عصره على أَنه قد قيل إِن بعض من تقدم على الشَّافِعِي نقل عَنهُ إِلْمَام بِبَعْض مسَائِله فِي أثْنَاء كَلَامه على بعض الْفُرُوع وَجَوَاب عَن سُؤال سَائل لَا يسمن وَلَا يُغني من جوع وَهل يُعَارض مقَالَة قيلت فِي بعض الْمسَائِل بتصنيف مَوْجُود مسموع

1 / 45

مستوعب لأبواب الْعلم وَكنت قَدِيما قد اعتنيت بِهَذَا الْعلم وراجعت غَالب مصنفاته المبسوطة والمتوسطة والمختصره من زمن إمامنا المبتكر لَهُ وَإِلَى زَمَاننَا حَتَّى صنفت فِيهِ بِحَمْد الله تَعَالَى مَا اجْتمع فِيهِ من قَوَاعِد هَذَا الْعلم ومسائله ومقاصده ومذاهب أئمته مَا أَظن أَنه لم يجْتَمع فِي غَيره مَعَ صغر حجمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ فَإِن تَطْوِيل مبسوطاته إِنَّمَا هُوَ بِذكر أَدِلَّة أَكْثَرهَا ضَعِيف وَأما مسَائِله ومقاصده فمحصورة مضبوطة ثمَّ إِنِّي استخرت الله تَعَالَى فِي تأليف كتاب يشْتَمل على غَالب مسَائِله وعَلى الْمَقْصُود مِنْهُ وَهُوَ كَيْفيَّة اسْتِخْرَاج الْفُرُوع مِنْهَا فأذكر أَولا الْمَسْأَلَة الْأُصُولِيَّة بِجَمِيعِ أطرافها منقحة مهذبة ملخصة ثمَّ اتبعها بِذكر شَيْء مِمَّا يتَفَرَّع عَلَيْهَا ليَكُون ذَلِك تَنْبِيها على مَا لم أذكرهُ وَالَّذِي أذكرهُ على أَقسَام فَمِنْهُ مَا يكون جَوَاب أَصْحَابنَا فِيهِ مُوَافقا للقاعدة وَمِنْه مَا يكون مُخَالفا لَهَا وَمِنْه مَا لم أَقف فِيهِ على نقل بِالْكُلِّيَّةِ فأذكر فِيهِ مَا تَقْتَضِيه قاعدتنا الْأُصُولِيَّة ملاحظا أَيْضا للقاعدة المذهبية والنظائر الفروعية وَحِينَئِذٍ يعرف النَّاظر فِي ذَلِك مَأْخَذ مَا نَص عَلَيْهِ أَصْحَابنَا وأصلوه وأجملوه

1 / 46

أَو فصلوه ويتنبه بِهِ على اسْتِخْرَاج مَا أهملوه وَيكون سِلَاحا وعدة للمفتين وعمدة للمدرسين خُصُوصا الْمَشْرُوط فِي حَقهم إِلْقَاء العلمين وَالْقِيَام بالوظيفتين فَإِن الْمَذْكُور جَامع لذَلِك واف بِمَا هُنَالك لَا سِيمَا أَن الْفُرُوع الْمشَار إِلَيْهَا مهمة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا بِالنّظرِ وَكثير مِنْهَا قد ظَفرت بِهِ فِي كتب غَرِيبَة أَو عثرت بِهِ فِي غير مظنته أَو استخرجته أَنا وَصورته وكل ذَلِك ستراه مُبينًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد مهدت بكتابي هَذَا طَرِيق التَّخْرِيج لكل ذِي مَذْهَب وَفتحت بِهِ بَاب التَّفْرِيع لكل ذِي مطلب فلتستحضر أَرْبَاب الْمذَاهب قواعدها الْأُصُولِيَّة وتفاريعها ثمَّ تسلك مَا سلكته فَيحصل بِهِ إِن شَاءَ الله تَعَالَى لجميعهم التمرن على تَحْرِير الْأَدِلَّة وتهذيبها والتبين لمأخذ تضعيفها وتصويبها ويتهيأ لأكْثر المستعدين الملازمين للنَّظَر فِيهِ نِهَايَة الأرب وَغَايَة الطّلب وَهُوَ تمهيد الْوُصُول إِلَى مقَام اسْتِخْرَاج الْفُرُوع من قَوَاعِد الْأُصُول والتعريج إِلَى ارتقاء مقَام ذَوي التَّخْرِيج حقق الله تَعَالَى ذَلِك بمنه وَكَرمه فَلذَلِك سميته بالتمهيد وَالله المسؤول أَن ينفع بِهِ مُؤَلفه وكاتبه والناظر فِيهِ وَجَمِيع الْمُسلمين بمنه وَكَرمه ثمَّ شرعت فِي أثْنَاء ذَلِك فِي كتاب آخر على هَذَا الأسلوب بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الْعَرَبيَّة مُسَمّى بالكوكب الدُّرِّي ليقوى بِهِ الاستمداد والتدريج وَيتم بِهِ الاستعداد للتخريج أعَان الله تَعَالَى على ذَلِك كُله بحوله وقوته لارب غَيره وَلَا مرجو سواهُ وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل

1 / 47