تضحك «فاطمة» وتخبط بيدها على فخذيها العاريين. أطلب منه أن يحكي لنا عن «حافظ نجيب». يقول إنه كان لصا داهية ونصابا دوليا. واشتهر بقدرته على التنكر والإفلات من البوليس. - مرة مسكوه متنكر على هيئة بارون إيطالي. ومرة زي السفير التركي. ومرة ثالثة لابس قسيس. المهم. في المحكمة كان واقف في القفص. وهب القاضي بيلتفت ملقاهوش. لحد الوقت محدش يعرف إزاي خرج من القفص.
تقول: والنبي يا سيدي تحكيلنا عن «جحا». يقول إن «جحا» سكن مرة في دار. بعد يومين اشتكى لصاحبها من قرقعة في سقفها. وإنه يخشي سقوطه. طمأنه صاحب الدار قائلا إن السقف يسبح الله. قال «جحا»: ما هو ده اللي أنا خايف منه. قاله: ليه؟ قال: يمكن يسوق فيها ويسجد علينا. ينفجر أبي ضاحكا حتى تدمع عيناه. يمسحهما قائلا: ربنا يجعله خير. أسأله لماذا يقول ذلك؟ يقول إن الوقت السعيد يتبعه دائما وقت سيئ. نتناول الإفطار فوق مركب عند روض الفرج. فول مدمس وعسل نحل بالقشطة. المائدة خشبية مدهونة باللون الأزرق. أمي تدندن بأغنية. نغادر المركب ونمشي وسط مزارع . ندخل بستانا للفاكهة. يشتري أبي موزا وبلحا. يدعوني صاحب المشتل لأكل الجوافة. آكل حتى تمتلئ بطني. نغادر المشتل. أتعثر في غطاء بكبورت. أقع فوقه وتصطدم رأسي به. أتقيأ كل ما أكلته.
يتناهى إلينا صوت «عبد الوهاب» من راديو «أم زكية». يغني: في البحر لم فتكم في البر فتوني. بالتبر لم بعتكم بالتبن بعتوني. يغني أبي معه: أنا كنت وردة في بستان قطفتوني، وكنت شمعة جوه البيت طفيتوني. يهز رأسه في حزن ويقول: بعد ما كنت يا «خليل» وردة في إيد الناس يشموك، بقيت يا «خليل» زي الطبيخ اللي حمض دلقوك. تقول «فاطمة»: ما تقولش كده يا سيدي. إنت أهه زي الفل.
ينهض واقفا ويخطو عبر الغرفة. عيناه على فخذي فاطمة. يرتفع صوت «عباس» مناديا عليها. تغطي فخذيها بسرعة وتنهض واقفة. تقول: تصبحوا على خير. يصحبني إلى الكنيف استعدادا للنوم. يطفئ النور. يستلقي إلى جواري. يترك باب البلكونة مفتوحا. أقول له: مش خايف حرامي يدخل؟ يقول: من توكل على الله حماه. يتلو آية «الكرسي». أفكر في الملائكة التي تحرسنا وترفرف حولنا. أروح في النوم. أستيقظ فجأة على حركة بجواري. أبي يهرش بين ساقيه. أنام. أستيقظ مرة أخرى. ما زال يهرش. تتسارع حركة يده. يتنهد. يستدير ناحيتي. أغلق عيني وأستغرق في النوم.
الفصل الرابع
1
يبدأ الإضراب بعد الحصة الأولى مباشرة. نردد خلف طالب بطربوش من السنة الخامسة: «عاشت مصر حرة مستقلة.» نطالب باستئناف القتال مع الصهاينة وجلاء الإنجليز ووحدة مصر والسودان. نغادر المدرسة. يقترح البعض الذهاب إلى الجامعة للانضمام إلى طلبتها. يقترح آخرون الاتجاه إلى مدرستي «فؤاد الأول» و«الحسينية». أتذكر تعليمات أبي. أنسحب من المظاهرة وأتسلل عبر الشوارع الجانبية المؤدية إلى منزلنا.
يفتح لي في جلبابه الكستور. الطاقية البيضاء فوق رأسه. مقطب. بقايا الإفطار على مائدة الصالة. أروي له ما حدث. يقول: حط الشنطة واقعد ذاكر. غرفتنا مكتومة والفراش غير مرتب. أسأله: هي «فاطمة» مجتش ولا إيه؟ يرد باقتضاب: لا. أضع الشنطة على المكتب. أستخرج كتاب التاريخ. أفتحه على الدولة الإسلامية في عهد «عثمان». أقرأ قصة الخلاف بينه وبين «علي بن أبي طالب» والنهاية المأساوية للاثنين.
يدق جرس الباب. أجري لأفتح. «فاطمة» تحمل صرة ملابس. في قدميها شبشب من البلاستيك الشفاف. دموعها تسيل على خديها. تقول إن «عباس» ضربها وطردها. وإنها ستسافر إلى البلد. يقول لها أبي: اهدي واقعدي. تقول إنها لا يمكن أن تبيت ليلة أخرى مع «عباس». يقول إن البيت بيتها وإنها يمكن أن تبيت عندنا إلى أن يخرج الحاج «عبد العليم» من الحبس. - يلا بلاش عياط. قومي شوفي شغلك.
تنظف المائدة والغرفة والمطبخ. يطلب منها أن تعد لنفسها حماما. تنقل الموقد إلى غرفة الصالون. تشعله وتضع فوقه صفيحة المياه. تملأ حوض الزنك إلى منتصفه بالماء. تضعه وسط الغرفة. ندخل معها. يطلب منها أن تغسل شعرها جيدا. يسألها: عندك فلاية؟ - أيوه. ليه؟ - علشان القمل.
Unknown page