ننتقل في «العباسية» إلى الترام الآخر. نغادره في الميدان. نعبر الشارع. نتوقف أمام مخبز «عبد الملاك» الأفرنجي. يشتري أبي كيسا من الكعك الهش المرشوق بالسمسم. نمضي في طريق جانبي كي لا نمر على دكان البقال. الحارة مظلمة ومدخل منزلنا أيضا. ندخل الشقة في الظلام. مصباح الصالة محترق. أتعلق بملابس أبي حتى يفتح باب حجرتنا ويضيء مصباحها. يعد كوبا من الماء المحلى بالسكر. نضع المائدة الصغيرة أمام السرير ونجلس حولها. نغمس البسكوت في الماء. يقول إن بيتنا أحسن مكان في الدنيا.
6
أفتح كراسة العلوم القديمة. أتأكد من وجود ريش الطيور المثبت في الصفحات. أتوقف عند الهدهد الذي أحبه. يخفت ضوء المصباح الكهربائي ككل ليلة. أتناول كتاب تاريخ مصر الفرعونية ذا الغلاف الأزرق. أقلب صفحاته متأملا الرسوم. «مينا» ذو التاجين. ينتهي من صلاة العشاء فوق السرير. يترجل. يضغط الطاقية الصوفية فوق رأسه وحول رقبته. يحكم روبه حول جسده. يضم قبضتيه ثم يسندهما إلى حافتي جيبيه. يقطع الغرفة جيئة وذهابا. «يضرب بلطة» كما يقول. يراها ضرورية بعد تناول العشاء.
أشكو من البرد. يحضر وابور الجاز من الصالة ويشعله ويضعه عند الباب قرب حافة السجادة. يتمزق غلاف كراسة. أعهد إليه بإعادة تغليفها. أناوله فرخ ورق التجليد الأصفر. أحضر له المقص فيرفض استخدامه. يجلس فوق حافة الفراش يطوي الورقة ويمر عليها بأصابعه عدة مرات. ثم يمزقها عند الثنية بعناية. ينفصل فرخ الورق إلى قسمين متساويين ليس بهما أثر القطع. يضع أحدهما جانبا ويضع الكتاب بين دفتي الآخر. يثني الورقة داخل الغلاف الأمامي للكتاب ثم يطوي حافتها العليا. يدسها بين الورقة والغلاف. يكرر الأمر عند الحافة السفلى. ثم ينتقل إلى الغلاف الخلفي ويكرر العملية.
يدق باب الغرفة. أفتحه لعمو «كريم» الكونستابل. يرتدي معطفا عسكريا أسود فوق جلباب أبيض. له شارب كثيف يمتد بحذاء شفته العليا. يرحب به أبي ويومئ له أن يجلس على حافة الفراش. أعود إلى مكتبي. يصبح ظهره لي. أتشمم رائحة معطفه العسكري التي أحبها. يتربع أبي فوق السرير. يستدير بجسمه قليلا حتى يصبح في مواجهتنا أنا والكونستابل. يسند ظهره إلى حافة القائم الحديدي عند رأس السرير.
يخرج الكونستابل من جيب معطفه علبة سجائر «هوليوود». يقدم واحدة إلى أبي فيعتذر. يبرز علبة سجائره السوداء. غلافها الأصفر يتوسطه رأس حبشي أحمر. يشعل الكونستابل عود ثقاب. يمد يده. يحني أبي رأسه مقربا سيجارته. يبقي طرف السيجارة في النار حتى تتوهج. أحمل منفضة السجائر من فوق المكتب وأضعها بينهما فوق الأغطية. يضع الكونستابل ساقا على ساق ويشبك يديه فوق ركبتيه. تظهر ساعة ذهبية في معصمه.
يتطلع حوله. يقول: إنت معندكش راديو ولا إيه؟ - الراديو بتاعنا بيتصلح.
أعرف أن هذا غير صحيح. فقد باعه أبي من زمن. يواصل الكونستابل كأنه لا يصدق أبي: فيه راديو فيلبس ب 12 جنيه. - يعني ماهية شهر. - ده سعره بالتقسيط.
يقترح على أبي أن يلعبا الدومينو. يستخرج من جيبه كبشة قصاصات متساوية من ورق سميك رمادي اللون. يسوي أبي الأغطية. يجذب وسادة الرأس الطويلة فيثنيها ويضعها بينه وبين الشاب. يطلب مني أن أناوله نظارته من فوق المكتب. يضع «كريم» الأوراق فوق الوسادة. يتناول أبي إحداها ويتأملها. يقول الكونستابل إنها تذاكر القطار الذي يستقله عندما يزور أمه. يخلط الأوراق بين راحتيه مثل الكوتشينة. يضعها فوق الوسادة. يختار كل منهما 7 ورقات. يسند أبي سيجارته إلى حافة المنفضة. يصف الورقات على راحتي يديه. يقيمها على حدي الكفين بحيث يبعدهما عن نظر الآخر. يفعل الآخر المثل. يكشف ورقة ويضعها في منتصف الوسادة. يقول: دبش. التضمين من 101.
يلحظ أبي أني أتابع اللعب فينهرني. يطلب مني أن أنهي واجباتي وأرتب حقيبتي. تسقط ورقة دومينو على الأرض فأسرع بالتقاطها. عبارة «المطرية - كوبري الليمون» مكتوبة بالأسود على أحد وجهيها. على الوجه الآخر دوائر مرسومة ومسودة بقلم الكوبيا. في أحد جانبيها أثر مقرض على شكل مثلث صغير.
Unknown page