ثم لا يقف الأمر عند هذا المستوى الثاني، بل قد نرى أنفسنا بإزاء قواعد عامة تضبط سلوكنا، أو بإزاء مجموعات من قوانين العلوم المختلفة، فهذه قوانين الضوء، وهذه قوانين الصوت، وهذه قوانين الكهرباء، وهلم جرا، فنسأل أنفسنا: ترى هل هذه القواعد السلوكية العامة، وهذه المجموعات من القوانين العلمية، مستقل بعضها عن بعض، أو أننا إذا أمعنا النظر فيها، ألفيناها تلتقي كلها في مبادئ مشتركة بينها؟ بل ربما نجدها آخر الأمر ترتد كلها إلى مبدأ واحد عام وشامل، فنمضي في تحليلها، لنرى إذا كان ثمة ما يوحدها أو لم يكن، وعندئذ تكون هذه العملية الفكرية هي ما يسمى بالفلسفة. فالفلسفة - إذن - هي مستوى من التعميم، يحاول أن يرد مفردات القيم السلوكية والمعارف والعلوم على اختلافها، إلى قمة واحدة، على نحو ما كان يفعله كل علم من العلوم على حدة، حين يقف عند المستوى الأول من مستويات التعميم، يحاول فيه أن يرد مفردات الظواهر الجزئية إلى قانون علمي واحد.
وهنا لا بد من ملاحظة هامة، وهي أنه سواء كان الأمر عند مستوى التعميمات العلمية، أم كان عند مستوى التعميم الفلسفي، فهذه التعميمات في كلتا الحالتين لا تهبط علينا من السماء، وإنما هي تستخلص استخلاصا مما يحدث هنا على الأرض؛ فالعلم يستخلص قوانينه من الحوادث الواقعة هنا في حياتنا اليومية، والفلسفة تستخلص مبادئها من قوانين العمل؛ وإذن فلا العلماء ولا الفلاسفة يصمون آذانهم ويغمضون عيونهم عن جزئيات الواقع. ولو وجدنا قانونا علميا لا تطبيق له على أرض الواقع، أو وجدنا مبدأ فلسفيا لا يمكن تعقب الصلة بينه وبين ما يحدث من حولنا وفي مجرى حياتنا، للفظناه لأنه عندئذ يكون كلاما في كلام. إذن فلو قلنا: إن الفلسفة هي استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي أو المتضمنة في الثقافة السائدة أو في حياتنا العملية، يصبح القول مفهوما، ولو كان رجال العلم أو كان الناس في حياتهم اليومية على وعي دائم بالفروض المسبقة المدسوسة المتضمنة في أقوالهم، لما بقي للفلسفة وظيفة تؤدى. لا ، بل كثيرا ما يحدث أن ينتبه عالم الرياضة أو عالم الطبيعة لما ينطوي عليه علمه من فروض مسبقة خافية، فيقف برهة ليقوم هو نفسه بتحليل علمه تحليلا يكشف عن الخبيء المنطوي. وعلى أية حال، فالذي يحدث في معظم الحالات هو أن العالم يبدأ علمه من نقطة معينة، تاركا ما وراءها من فروض مضمرة، وكذلك الإنسان العادي في اعتقاداته وفي حياته العملية، لا يعنيه البحث عما وراء تلك الاعتقادات وما وراء هذه الحياة العملية من أسس ومبادئ، فتكون مهمة الفلسفة هي استخراج ما هو مضمر في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لننقلها من حالة الكمون إلى حالة العلن، وما أكثر ما يحدث أن تجد إنسانا راضيا كل الرضا عن أفكاره وتصرفاته، حتى إذا ما استخرجت ما تنطوي عليه تلك الأفكار والتصرفات من أسس خافية، فزع واستنكر؛ لأنه لم يكن قد حفر تحت أفكاره وتصرفاته ليرى تلك الأسس واضحة صريحة، وها هنا يتمهد الطريق أمامه إلى التحول عما هو فيه؛ لأنه - وقد رأى وراء أفكاره أسسا لا يرضى عنها - يجد ألا مندوحة له عن تغييرها ليقيم سواها على أسس أخرى ترضيه.
أظن أن في هذا التحديد لمعنى الفلسفة ضوءا كاشفا، يبين لنا ماذا يكون الفرق - مثلا - بين التاريخ وفلسفة التاريخ، وبين اللغة وفلسفة اللغة، بين السياسة وفلسفة السياسة، وغير ذلك من مقابلات بين الشيء وفلسفته. فالتاريخ يروي ما قد حدث، وأما فلسفته فتحفر وراء هذا الذي حدث، لعلها تقع على المبدأ الذي على أساسه قد حدث، كأن يقال مثلا: إن الأساس الكامن وراء حوادث التاريخ هو عقل كوني يسير الأحداث ويوجهها نحو غاية يريدها، أو يقال: إن ذلك الأساس هو ما يحدث بين طبقات المجتمع من صراع، وهكذا فهذه لا تكون تاريخا، بل تكون فلسفة للتاريخ. وكذلك قل في اللغة وفلسفتها، فاللغة هي هذه الرموز التي نتبادلها كلاما وكتابة، وفق قواعد تضبط تركيباتها وتصريفاتها، أما إذا حفرت وراء هذه التركيبات والتصريفات، لعلي أقع على جذور عنها انبثقت، كان ذلك هو فلسفة اللغة، كأن أقول - مثلا - إن اللغة العربية تجعل الأولوية للأسماء على الأفعال والحروف، بدليل أنه لا بد لكل كلام مفيد من الاسم، على حين قد تستغني الجملة المفيدة عن الفعل والحرف، وقد أفسر هذا بأن العربي أشد اهتماما بالأشياء منه بالعلاقات الكائنة بين تلك الأشياء، فأنا إذ أقول هذا فلست أقول به قاعدة من قواعد اللغة، إنما أذكر مبدأ في فلسفة اللغة، والأمثلة كثيرة على الفرق بين الشيء وفلسفته، يستطيع من شاء أن ينسجها على هذا المنوال. •••
تلك - إذن - هي الفلسفة: هي إخراج الأسس الكامنة في أفكارنا واعتقاداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفة عامة، إخراجها من حالة الكمون إلى حالة الإفصاح والإيضاح والعلانية، لتسهل رؤيتها ومناقشتها، وهنا ينشأ هذا السؤال: إذا كان أمر الفلسفة كذلك، فكيف تجوز التفرقة بين فلسفة عربية وفلسفة غير عربية؟ أليست الفلسفة هي هذا البحث عن الأسس الكوامن في حياة الإنسان العقلية والسلوكية، بغض النظر عن قومية الباحث؟ وإلا فهل تختلف عملية الحفر إذا اختلفت الأيدي التي تمسك بالفأس الحافرة؟ أئذا حلل عالمان من علماء البيولوجيا - مثلا - كائنا من دنيا الحيوان أو النبات، جاز أن يكون التحليل عند أحدهما تحليلا عربيا وعند الآخر تحليلا غير عربي؟ فلماذا لا تكون العملية الفلسفية على هذا الغرار؟
والإجابة على ذلك هي أن الأمر كان ليكون كذلك، لو أن الموضوع المطروح للبحث أمام الفلاسفة موضوع لا يتأثر بوجهات النظر المختلفة، فلن يكون اختلاف بين فيلسوف عربي وفيلسوف إنجليزي إذا ما أراد كلاهما أن يستخرج من العمليات الفكرية أسس الاستدلال السليم، أو أراد كلاهما أن يستخرج من العدد أسس التفكير الرياضي، أما إذا كان الموضوع المطروح للبحث والتحليل ذا صلة بالأصول الثقافية العامة عند هذه الأمة أو تلك، أعني الأصول التي تبنى عليها وجهة النظر إلى موضوعات هامة، كموضوعات الإنسان والكون والله، فها هنا لا يكون بد من أن تجيء النتائج مختلفة حتى إذا اتفق الفلاسفة جميعا على طريقة واحدة في البحث والتحليل.
وقد تسألني في هذا الموضوع قائلا: ألم تذكر لنا منذ حين أن الفلسفة هي صعود في سلم التعميم، من مستوى القوانين العلمية، إلى مستوى أعلى، يجتمع عنده شمل هذه القوانين في مبدأ واحد، إذا كان ذلك مستطاعا؟ وها أنت ذا تذكر للفلسفة موضوعات رئيسية هامة، لا شأن لها بمثل هذا الصعود، وهي التي تختلف حولها الفلسفات من أمة إلى أمة، وأعني موضوعات الإنسان وقيمته، والكون وبنيته، والله وحقيقته، فما للقوانين العلمية وهذه الموضوعات وأمثالها؟
وأجيبك بأنك قد تعجب إذا علمت بأنك لا تكاد تعلو برأسك فوق تعميمات العلم وقوانينه، حتى تصطدم بهذه المشكلات؛ إذ ما هو إلا أن تجد نفسك أمام أسئلة تسأل: هل تسير الطبيعة - والطبيعة هي موضوع العلوم على اختلافها - هل تسير على خطة مرسومة لا تحيد عنها ذات يسار أو يمين؟ أو أنها تسير على المصادفات؟ بعبارة أخرى، هل تكون قوانين العلوم يقينية، أو تكون على درجات من الاحتمال تعلو وتهبط؟ هل تطرد هذه القوانين لتشمل الكون كله - بما في ذلك الإنسان - أو أنها تتناول جانبا وتعجز عن جانب؟ هل نعد الإنسان ظاهرة طبيعية نخضعه للعلم كأية ظاهرة أخرى، أو أنه كائن فريد يتطلب طريقة في البحث خاصة به؟ هل تمتد حلقات السلسلة السببية، من مسبب إلى سببه، فإلى سببه الأعلى، وهلم جرا إلى غير نهاية، أم أنها قمينة أن تقف عند حلقة أولى نفترض فيها أنها هي السبب الأول لكل ما يتلوه من أحداث، دون أن يكون هو نفسه مسبوقا بما يسببه؟ وهكذا وهكذا، كلها أسئلة تتفرع مباشرة - أو بطرق غير مباشرة - عن تعميمات العلم وقوانينه، فإذا نسقتها وصنفتها وجدتها كلها أسئلة تدور حول الله والكون والإنسان، وهي موضوعات مما تتباين فيه الثقافات. وأيا ما كانت الحال، فهذا هو الأمر الواقع، عرضت للناس من مختلف الشعوب والثقافات، مشكلات بعينها، نشأت حين أرادوا أن يردوا الأشياء والأفكار والمعتقدات إلى أصولها الأولى، ليعلموا من أي المصادر انبثقت، وبأي الطرق سلكت سبيلها إلينا؟ فكان لكل مجموعة من الناس وجهة للنظر، وقع على الفلاسفة مهمة استخراجها، فنشأت بذلك فلسفات تتلون بألوان القوميات المتباينة ، فهذه إنجليزية، وتلك فرنسية، وهلم جرا، فإذا كان من المقطوع به أن قد كانت للأمة العربية وقفة متميزة بإزاء الإنسان والكون والله، أفلا يكون من حقنا أن نطالب لأنفسنا بفلسفة عربية، تفصح لأنفسنا، وللعالم عن دقائق هذه النظرة ومميزاتها؟
لقد كانت لأسلافنا وجهة نظر فلسفية تميزوا بها، وأما نحن - في هذا العصر - فيبدو أن النقل عن التيارات الفلسفية في أوروبا وأمريكا، قد شغلنا، حتى لم يعد أمامنا فراغ نفكر فيه لأنفسنا، وبطريقتنا الخاصة، وها أنا ذا أطرحه اليوم سؤالا: هل من سبيل إلى إنتاج فلسفي عربي أصيل؟ إني لألحظ أن فلاسفة الهند المعاصرة - وعلى رأسهم راذاكرشنان - على شدة اتصالهم بثقافات الغرب، لبثت لهم فلسفتهم الهندية التي لا يخطئها النظر بين سائر الفلسفات، فما تزال وجهة نظرهم إلى موقف الإنسان من الكون مطبوعة بطابعهم، وهو الطابع الذي يجعل الفرد جزءا من الكل الذي يحتويه، بحيث لا تكون له فرديته الخاصة خارج حدود حياته الدنيا. وأما نحن، فقد تجد منا نصيرا لهذه الفلسفة أو نصيرا لتلك، مما تعج به أوروبا وأمريكا، وبرغم اجتهادنا المذكور في حسن الهضم، وجدة العرض، فما نزال بعيدين عن أن يكون بين أيدينا ما نقدمه إلى أنفسنا وإلى العالم على أنه فلسفة عربية خالصة، تعبر عما يدور في أخلادنا حيال ما يعرض للعالم اليوم من مشكلات.
فقد تستطيع أن تقسم عالم الفلسفة في أوروبا وأمريكا اليوم ثلاثة قطاعات كبيرة، يتجانس كل منها في فلسفته السائدة بصفة عامة، فهنالك القطاع الأنجلوسكسوني الذي يشمل الشمال الغربي من أوروبا كما يشمل الولايات المتحدة الأمريكية، وهؤلاء تشغلهم فلسفة المعرفة العلمية، التي يحاولون بها - على اختلافات شديدة بينهم في ذلك - أن يحللوا تلك المعرفة تحليلا يدلهم على مصدرها الأول ماذا يكون؟ وهنالك القطاع الذي يشمل غربي أوروبا: فرنسا وألمانيا بصفة خاصة، وهؤلاء تشغلهم فلسفة الوجود الإنساني، لا فلسفة المعرفة العلمية، ثم هنالك القطاع الشرقي من أوروبا، تشغله مشكلة المجتمع وكيف يقيم بناءه من جديد.
فجئنا نحن، أعني المشتغلين بالفلسفة من أبناء الأمة العربية ، وأخذ كل منا بما يتفق واستعداده من تلك التيارات الأوروبية والأمريكية، فإذا استعرضت إنتاجنا الفلسفي - على غزارته - رأيتك أمام أصداء تردد - بصفة عامة - أصوات القطاعات الثلاثة التي ذكرتها، أو قد ترى منا من قد ترك العصر وما فيه، وارتد إلى ركن من التاريخ يلوذ به في دراساته، فواحد يدرس الفلسفة الإسلامية في عصورها السابقة، وآخر يدرس الفلسفة اليونانية القديمة، وهلم جرا. وليس في ذلك كله عيب يعاب - بل إنه لواجب دراسي محتوم - لولا أننا كنا نود أن يكون إلى جانب أولئك وهؤلاء، من يعنى بالأمة العربية في عصرها الراهن، ويضرب بأدواته التحليلية إلى جذورها الفكرية، ليصوغ فلسفة معبرة عن وقفتها إزاء العصر ومشكلاته وما يعانيه، فأي غرابة في أن أطرحه اليوم سؤالا جادا: هل ثمة من طريق أمامنا يخرجنا من الطرق المسدودة التي نذهب فيها ونجيء لنسير على طريق فلسفي معاصر، يتميز بالطابع العربي المتميز الأصيل، نختلف فيما بيننا على أرضه، ولكن في حدود أطره ومبادئه؟ •••
Unknown page