ثم يقول عنه في آخر مقطوعة يختتم بها كتابه: «إن الحكيم لا يجمع شيئا لنفسه؛ فهو بقدر ما يعيش لغيره يزداد غنى، وبقدر ما يعطي غيره من الناس يزداد نصيبه مما يملك.» ونسأله عن السر في هذا، فيجيب على الفور بأنه يسير على طريق السماء الذي ينفع بغير أن يضر. ولهذا كان طريق الحكيم أن يعمل بغير أن يتنازع مع أحد، وأن يتم عمله ويختفي. ومعنى هذا ألا يزهو بعمله، ولا ينتظر جزاء عليه، ولا يفكر لحظة واحدة في الإعلام أو الإعلان عنه، بل يهرب حتى من رغبة الناس في تكريمه أو الاحتفاء به كأنما يهرب من عار أو من وباء. وربما كان المثل الحي لمثل هذا الإنسان الحكيم هو ذلك القائد الطاوي «فان-لي» من القرن الخامس قبل الميلاد، الذي يروى عنه أنه حقق الانتصار على الأعداء ثم اختفى إلى الأبد. لقد وعدوه فيما يحكى عنه أن يقدموا له نصف المملكة هدية إذا رجع من المعركة منتصرا ومعه جيوش «يو-ويه» الظافرة. ولكنه انتصر ثم ركب مركبا خفيفا، وتوارى عن الأنظار، ولم يسمع عنه أحد بعد ذلك، بينما كان الشعب الذي بلغته أنباء الانتصار يقيم الأقواس والزينات، وينتظر القائد في لهفة لينثر عليه الزهور، ويضع على رأسه أكاليل الغار.
هذا القائد العسكري الذي حكينا حكايته ينطبق عليه ما يقوله المعلم الصيني العجوز عن الحكيم أو القديس أو النبيل، وما يصفه به من أوصاف لا تخرج في مجملها عن الفضائل «الصوفية» التي ألمحنا إليها في السطور السابقة، ويبدو أنها كانت قد اختفت من الوجود في العصر المضطرب الذي عاش فيه «لاو-تزو»، كما اندثرت أو أوشكت على الاندثار في زماننا ومكاننا. فالحكيم هو ذلك الذي يعرف طريق السماء كما يعرف نفسه، ولكنه لا يعرض أو يستعرض نفسه، وهو الذي يصون نفسه ويعرف قدره، ولكنه لا يكرم نفسه، ولا يتعمد أن يرفع من قدره أنه يفعل، ولكنه لا يفاخر بفعله ولا يكابر، وإذا أنجز الفعل - كما رأينا من القائد المنتصر الذي توارى عن الاحتفال بانتصاره! - لم يتلبث عنده، ولم يجن مصلحة من ورائه. إنه باختصار قد اتحد بالطريق حتى أصبح هو والطريق شيئا واحدا. ولأنه أحاط بالواحد، فقد صار نموذج العالم أو مقياس المملكة: «إنه يتجلى لأنه لا يكشف عن نفسه، ويعترف به لأنه لا يعطي الحق لنفسه، ويثق الناس به لأنه لا يدعي، ويمجده الناس لأنه لا يمجد نفسه، ولا يسعى أحد بشيء ضده لأنه لا يسعى إلى شيء.»
غير أن كل هذه الأوصاف والفضائل والأحوال التي ذكرناها عن الحكيم أو الإنسان الطاهر النبيل، ليست هي كل شيء في نظر حكيمنا الصيني، كما أن هذا الإنسان نفسه لم يكن هو غاية مطلبه من كتابه. قد يمكننا أن نضع كلمة «السالك» مكان كلمة الحكيم، أو نستبدل بكلمة الطريق (الطاو) اسم الجلالة أو الواحد أو الهو أو الحق (كما فعل أفلوطين الذي أكد عجزه عن تسميته لأنه لا يسمى)، دون أن نلاحظ اختلافا يذكر بين المعلم الصيني وبين أي متصوف إسلامي أو مسيحي، في الشرق أو الغرب على السواء؛ ذلك أن هدف المعلم الصيني كان أبعد من ذلك وأخطر، كما أن فساد الأوضاع واضطراب الأحوال في عصره لم يكن يسمح له بالاكتفاء بالدعوة إلى الحكمة وسائر الفضائل التي أوردناها للحكيم؛ ولهذا نجده يتجه بخطابه الحقيقي إلى الحاكم الحكيم الذي راح يعلق عليه آماله في الإصلاح، ويتعجل ظهوره لإنقاذ البلاد والعباد من الفوضى والبؤس والمجازر التي تردت بلاده في مستنقعها الدامي. ويكفي مصداقا لهذه الحقيقة أن نلاحظ نبرة الألم، بل الغضب المقدس، التي يتكلم بها عن الحالة التي وصلت إليها بلده وغيرها من البلاد نتيجة الحروب والصراعات بين الأمراء والحكام الإقطاعيين:
البلاط يعج بالأبهة، بينما الحقول تملؤها الأعشاب الضارة. كل شيء في القصر على ما يرام، بينما الحقول لا تجد من يحرثها. والموظفون (ربما يقصد رجال الحاشية) يتدثرون بالثياب الزاهية، ويتحزمون بالسيوف الغالية، ويتخمون بطونهم بالطعام والشراب، ولديهم من الثروة والمتاع ما يفيض عن حاجتهم.
ويمكننا أن نتخيل البقية الباقية: «الشعب تفترسه المجاعة، والأوبئة تستشري في كل مكان، واللصوص وقطاع الطرق ينهبون ويخطفون ويتجبرون، ويزيد عددهم كلما زاد عدد القوانين والتعليمات والنواهي والتحريمات (57)، كما يزداد الاضطراب كلما تكاثرت الأسلحة الحادة مع الناس، وثقلت أعباء الضرائب على ظهور عامة الفلاحين الفقراء.»
ما هي الصورة التي يرسمها المعلم العجوز لهذا الحاكم الحكيم؟ كيف يواجه الفوضى والاضطراب والحروب والنفاق الاجتماعي والشهوات الجامحة الكاسحة، التي انطلقت في بلده وعصره كالوحوش الكاسرة من أقفاصها، وخرجت من ظلمات غاباتها الدفينة في مجاهل أعماق البشر؟ وأي فعل ينصحه بالقيام به وهو الذي يدعو إلى رأيه المحير المشهور عن عدم الفعل؟ هل يمكن أن يأتي الإصلاح عن طريق الامتناع عن الفعل - أي عن التدخل في مجرى الطبيعة الكونية والإنسانية، كما قلنا، وإفسادها بالأمر والنهي والحظر والتسلط - بحيث يصبح الحاكم الملتزم بالطريق، أي بالصمت والسكينة والتواضع والتعفف والرضا ... إلخ، هو القدوة التي يهتدي بها الناس، ويتعلمون منها بغير كلام ولا لجوء إلى القوة والبطش؟
يفترض المعلم أن يكون الحاكم الحكيم بالنسبة لشعبه كالأم التي تحتضن الأبناء، وتحمل همومهم في قلبها وعلى كتفها:
من يتحمل قذارة العالم، فهو سيد المملكة. من يتحمل ذنوب العالم، فهو ملك العالم (...). إن فؤاده لا يطير من الرعب والفزع في أوقات المحن والكوارث والفوضى والاضطراب، وإنما يظل يدثر جسده بثوب الشعر الذي كان يلبسه فقراء الفلاحين، بينما يحمل بين ضلوعه جوهرة صافية كابتسامة الرضيع أو نظرة عينيه:
يحمل على جسده ثوب الشعر، أما في قلبه فيحمل الجوهرة.
هذا الحاكم الحكيم ليس له قلب خاص به، بل يعد قلب الشعب قلبه. إنه يقول لنفسه: «أنا خير مع الأخيار، ومع الأشرار أيضا خير. لهذا تصوب الأجناس المائة أبصارها وأسماعها نحوه، ويلقى الجميع كأنهم أطفاله.» وهو في هذا كله يقتدي بنماذج الحكام والحكماء الذين عاشوا قبله بقرون طولية، ولم يمل المعلم العجوز، ولا غيره من المعلمين - كما سبق القول - من تذكير الحكام بتواضعهم وقناعتهم وتمسكهم بطريق السماء:
Unknown page