69

كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر - الفرنسيون في الغالب - بدءوا بالتوحيد بين الاستبداد ونظم الحكم الشرقية، ثم غيروا بعد ذلك تصورهم للمصطلح، بحيث ينطبق على أشكال السيطرة الشاملة المطلقة في أي مكان وزمان، وكأن هدفهم في الحقيقة هو الاعتراض على تركيز السلطة في يد «الملك الشمس» لويس الرابع عشر، واحتكاره لها كما يفعل «السيد الكبير» أو السلطان العثماني المستبد. (ه)

تصور مونتسكيو (1689-1755م) للاستبداد بوصفه أحد الأشكال أو الأنماط الثلاثة للحكومة والحكم (بجانب الملكي والجمهوري)، وإدانته للرق والاستعباد بأي صورة من الصور إدانة حاسمة. (و)

الانتقادات التي وجهت إلى التصور السابق في القرن الثامن عشر، وتأثيراتها المختلفة، لا سيما على يد فولتير (1694-1778م) الذي سخر من نظرية مونتسكيو التجريبية عن الاستبداد، وإمكان تطبيقه على الإمبراطوريات الشرقية - والصين بوجه خاص - التي لا يعرفها حق المعرفة، وكذلك النقد الذي وجهه أنكيتيل ديبورون (1731-1805م)، الذي هاجم في كتابه «التشريع الشرقي» (1788م) نظرية الاستبداد الشرقي، وربطها بالدولة الأخيمينية التي قصدها أرسطو، وكان دفاعه عن الحضارات الشرقية القديمة، وفضحه لغرور الغرب وجهله وجشعه كما يقول، نتيجة إقامته بين المجوس في الهند، من سنة 1755م إلى سنة 1761م، وقيامه بترجمة «الأفيستا» (وهي النصوص المقدسة المنسوبة إلى زرادشت) إلى الفرنسية. (ز)

التطورات اللاحقة في استخدام المصطلح من قبل روبسبيير وسان جوست أثناء الثورة الفرنسية لتبرير استبداد الثورة ورعب الحرية والفضيلة، ثم عند الكاتبة مدام دوستايل وبنجامين كونستانت حتى هيجل وماركس، وأخيرا توكفيل الذي أكد - في كتابه عن الديمقراطية في أمريكا الشمالية (1835م) - عدم كفاية مصطلحي الاستبداد والطغيان للتعبير عن المستجدات في القرن التاسع عشر، كما تصور إمكان قيام شكل جديد من أشكال الاستبداد التي تهدد المجتمع الديمقراطي، ويتمثل في طغيان رأي الأغلبية على رأي الأقلية، وفي تركيز كل قوى الشعب في قبضة فرد أو هيئة لا يحاسبان ولا يسألان عن أعمالهما، كما حدث أثناء رعب الثورة الفرنسية وفي عهد الإمبراطورية، على نحو ما ذكرنا من قبل.

وسوف نقصر حديثنا على النظرية الإغريقية، التي تلقي الضوء على مفهوم الاستبداد في علاقته بالطغيان الشرقي، وهو الذي يهمنا قبل غيره كما سبق القول.

تدل كلمة المستبد (ديسبوتيس

Despotes ) في اليونانية على ثلاثة معان، أولها هو رأس الأسرة أو رب العائلة، وثانيها هو السيد على العبيد، أما ثالثها فيمتد في المصطلح السياسي ليشمل نمطا من أنماط الحكم الملكي، تكون فيه سلطة الملك على رعاياه مماثلة لسلطة السيد على عبيده، وإن نظر إليها المحكومون باعتبارها مشروعة وتقرها الأعراف والتقاليد. ويقول أرسطو في هذا الصدد إن سلطة السياسي (بوليتيكوس) تمارس على الأحرار بطبيعتهم، أما سلطة السيد فتمارس على العبيد بالطبيعة (السياسة، 1، 1255ب). ومعنى هذا أن الاستبداد والعبودية ينطبقان على نموذج بذاته للعلاقة بين البشر، وأن هذا النموذج غير خليق بمجتمع الأحرار.

تصور الإغريق منذ بداية الحروب الطويلة التي دارت بينهم وبين الفرس، أن الاستبداد مجموعة من النظم والتقاليد الخاصة بالشعوب «البربرية» - أي غير الهللينية - الذين اعتبروهم عبيدا بالطبع، وأنه شكل من أشكال الحكم الملكي يمارسه الآسيويون، ويتمثل نموذجه الصارخ في ملوك الفرس الأخيمينيين (من 538 إلى 331ق.م). وقد كان الإغريق أثناء الحروب التي دارت بينهم وبين الفرس يشعرون بالاشمئزاز من صورة هؤلاء الملوك «الشمسيين» الذين يجسدون القانون الإلهي، ومن ثم الحكم المطلق، بينما يعتزون هم - كما يقرر هيرودوت - بأنهم أحرار لأنهم يخضعون لقوانين دولة «المدينة»، لا لأي حاكم آسيوي يسجد له رعاياه ويركعون؛ فالأحرار لا يسجدون لبشر فان، والمستبد الأرضي الوحيد الذي يمكن أن يعترفوا به هو «القانون» الذي وافقوا عليه بمحض إرادتهم (على نحو ما عبر سقراط في دفاعه المشهور وفي حواره مع كريتون). وهكذا اكتسب مصطلح الاستبداد معناه الرابع الذي نجده عند هيرودوت وأكزينوفون وأفلاطون.

وقد اهتم أرسطو، أكثر من أي كاتب إغريقي آخر، بشرح المصطلح، والمقارنة بينه وبين الطغيان، كما أثرت «نظريته» عن الاستبداد تأثيرا كبيرا على الفكر السياسي، حتى ليرد اسمه على الخاطر فور سماع الكلمة! إنه يؤكد أن الاستبداد الآسيوي لا يقوم على القوة، ولا يأتي من خوف المحكومين من حاكمهم المتأله. والسبب في ذلك بسيط، فهم يوافقون برضاهم على استعباده لهم. أضف إلى هذا أن الاستبداد شكل من أشكال الملكية الدستورية، التي تقوم في الأصل على احترام الملك للقانون السائد، لا على تأكيد إرادته التعسفية. ثم إن النظم الاستبدادية لا تعرف مشكلة الحاكم الذي يخلف المستبد في الحكم؛ لأنها تتميز بالاستقرار والثبات، على العكس من «نظم» الطغيان التي تواجه الانقلاب، أو لنقل التقلبات المفاجئة، وقد يلجأ الطاغية للاستعانة بقوات أجنبية لإخماد معارضة المحكومين (السياسة، 3، 9، 1286أ). والذي يهمنا في هذا السياق أن أرسطو قد ربط الاستبداد بالطغيان؛ مما جعل كلامه عنه (أي عن الاستبداد) يحمل معنى الإدانة والاتهام. فمع أن سلطة الملوك الآسيويين سلطة ملكية؛ لأنهم يحكمون طبقا للقانون، وبرضا المحكومين، إلا أنها كذلك سلطة طاغية؛ لأنهم يحكمون بطريقة مستبدة تعبر عن أهوائهم وأحكامهم الخاصة على الأمور (السياسة، 4، 8، 1295أ). ويصل أرسطو في ربطه بين الاستبداد والطغيان إلى حد تقرير التماثل بينهما عندما يناقش وسائل المستبدين - مثل بيرياندر حاكم كورنثه وأحد الحكماء السبعة - في مد فترة حكمهم، وهي في رأيه نفس الوسائل التي يلجأ إليها ملوك الإمبراطورية الفارسية (السياسة، 5، 9، 1313أ). ومع أن المستبد يحكم طبقا للقانون، فهو لا يحكم بما يتمشى مع الصالح العام، وكذلك فإن كل النظم والدساتير التي تستغل لمصلحة الحاكم «تحمل عنصرا من عناصر الاستبداد»، على حين أن البوليس (أي دولة المدينة الإغريقية) جماعة مشتركة من الأحرار الذين تربط بينهم أواصر الصداقة والعدل (السياسة، 3، 4، 7). بيد أن هذه الأواصر لا تقوم لها قائمة إذا انعدم العنصر المشترك بين الحاكم والمحكوم، كما هو الحال في ظل الطغيان والاستبداد، حيث تكون العلاقة بينهما (أي بين الحاكم والمحكوم) مثل العلاقة بين الصانع والأداة، أو بين النفس والجسم، وبين السيد (ديسبوتيس) والعبد. ومن المستحيل بطبيعة الحال أن تقوم صداقة أو عدل في علاقة الإنسان بالجماد، أو بحصان أو ثور، أو في علاقة عبد بعبد؛ ذلك لأن السيد والعبد لا يجمع بينهما شيء مشترك؛ فالعبد أداة حية، والأداة عبد جامد أو فاقد للحياة (الأخلاق إلى نيقوماخوس، 8، 9).

هكذا ربط أرسطو نظام العبودية بشكل الحكم الاستبدادي على أساس طبيعة العلاقات البشرية في كل منهما، وهنا يتحدد في رأيه الفرق بين الإغريقي والبربري (أي غير الإغريقي)؛ فالإغريق يملكون القدرة على أن يحكموا ويحكموا، أما البرابرة فجميعهم عبيد بحكم الطبيعة والمولد. ويستطرد أرسطو في حكمه المغرض، فينتهي إلى أن وضع العبد والمرأة واحد عند البرابرة (لأنهما يفتقران للقدرة الفطرية على الحكم، والزواج بينهما مجرد قران بين أمة وعبد!) وأن الإغريق الأحرار بالفطرة ينبغي أن يحكموا البرابرة (هو نفس ما أكده هيجل بعد ذلك، ودعا إليه) (السياسة 1، 1، 1252ب).

Unknown page