ركضت خارجة من الغرفة واضعة منديلها فوق وجهها. وجلس ووضع لنفسه اللحم المقدد والبيض والتوست وبدأ في تناول الطعام؛ فكان مذاق كل شيء كالورق. توقف عن الأكل لتدوين ملاحظة في دفتر مذكرات يحتفظ به في جيب صدره بجوار منديله. الاطلاع على قضية كولينز ضد أربوثنوت، محكمة استئناف نيويورك.
نما إلى مسامعه صوت خطوة في الردهة بالخارج، ثم صوت نقر ترباس. كان المصعد قد نزل لتوه. فركض نازلا أربعة طوابق. ووقعت عيناه عليها فوق حافة الرصيف عبر الزجاج وأبواب الحديد المطاوع للدهليز بالأسفل، حيث كانت تقف منتصبة ومتيبسة ترتدي قفازها. هرع خارجا وأخذها من يدها في الوقت نفسه الذي أتت فيه سيارة الأجرة. تصبب العرق كحبات الخرز فوق جبهته ووخزه أسفل ياقته. رأى نفسه واقفا هناك وفي يده منديل المائدة في مظهر باعث على السخرية، والبواب الملون يبتسم ابتسامة عريضة قائلا: «صباح الخير يا سيد بالدوين، يبدو أنه سيكون يوما جميلا.» قبض على يدها بإحكام، وقال بصوت منخفض مطبقا على أسنانه: «ثمة شيء أريد أن أخبرك به يا سيسلي. هلا انتظرت دقيقة وسنذهب إلى وسط المدينة معا؟ ...» وقال لسائق سيارة الأجرة: «انتظر خمس دقائق أرجوك. سنعود على الفور.» سار راجعا معها إلى المصعد وهو يعتصر معصمها بشدة. عندما وقفا في ردهة شقتهما، نظرت إليه فجأة مباشرة في وجهه بعينين متوقدتين جافتين.
قال برفق: «تعالي هنا يا سيسلي.» أغلق باب غرفة النوم وأوصده. «حسنا، لنتحدث عن هذا الأمر سريعا وبهدوء. اجلسي يا عزيزتي.» وضع كرسيا خلفها. جلست فجأة متيبسة كدمية ماريونيت. «حسنا، اسمعي يا سيسلي، لا يحق لك أن تتحدثي عن أصدقائي بالطريقة التي تحدثت بها. السيدة أوجليثورب صديقتي. نحتسي أحيانا الشاي معا في مكان عام تماما، وهذا كل ما في الأمر. كنت سأدعوها لزيارتنا ولكني خشيت ألا تحسني التصرف معها ... ينبغي ألا تخضعي هكذا لغيرتك الجنونية. لقد تركت لك كامل الحرية وأثق فيك تمام الثقة. وأظن أن من حقي أن أتوقع الثقة نفسها منك ... ارجعي فتاتي الصغيرة العاقلة يا سيسلي. أنت تستمعين لما يختلقه من الصورة الكاملة حفنة من العجائز الشمطاوات مكرا منهن ليجعلوك تشعرين بالتعاسة.» «إنها ليست الوحيدة.» «أقر لك بصراحة يا سيسلي أنه في وقت مبكر من زواجنا ... حدث أن ... ولكن ذلك قد انتهى قبل سنوات ... وخطأ من كان هذا؟ ... أوه يا سيسلي، إن امرأة مثلك لا يمكنها أن تفهم الحاجات الجسدية الملحة لرجل مثلي.» «ألم أفعل كل ما في وسعي؟» «يا عزيزتي، هذه الأشياء ليست خطأ أحد ... أنا لا ألومك ... إن كنت قد أحببتني حقا إذن ...» «هل ترى أن هناك سببا آخر لمكوثي هنا سواك؟ أوه، يا لك من قاس!» جلست بعينين ليس فيهما دموع محدقة في قدميها في شبشبها الرمادي المصنوع من جلد الأيل، وتلوي وتفرد بين أصابعها الحبل الرطب الذي صنعته من منديلها. «اسمعي يا سيسلي، من شأن الطلاق أن يضر كثيرا بوضعي في وسط المدينة في الوقت الراهن، ولكن إن كنت حقا لا تريدين أن تواصلي العيش معي، فسأرى ما يمكنني فعله ... ولكن في كل الأحوال يجب أن تزيدي من ثقتك في. تعلمين إنني لمولع بك. وأرجوك ألا تتحدثي مع أحد في الأمر دون الرجوع إلي. أنت لا تريدين أن تنالنا فضيحة وأن تظهر أسماؤنا في عناوين الصحف، أليس كذلك؟» «حسنا ... اتركني وحدي ... أنا لا أهتم بشيء.» «حسنا ... لقد تأخرت كثيرا. سأذهب إلى وسط المدينة بسيارة الأجرة تلك. ألا تريدين أن تأتي للتسوق أو أي شيء؟»
هزت رأسها. قبلها فوق جبينها، وأخذ قبعته القشية وعصاه من الردهة، وهرع خارجا.
قالت ممتعضة قبل أن تنهض: «أوه، إنني أكثر امرأة تعيسة.» آلمها رأسها كما لو كان محفوفا بسلك ساخن. ذهبت إلى النافذة ومالت منها في ضوء الشمس. كانت السماء الزرقاء المتوهجة عبر بارك أفنيو تبدو مطوقة بقضبان الدعامات الحمراء للمباني الجديدة. خشخشت مثبتات الدعامات التي تعمل بالبخار بلا توقف، ومن حين لآخر كانت رافعة محرك البخار تصفر، وكانت هناك صلصلة سلاسل ودعامة مركبة حديثا تحلق بالعرض في الهواء. وكان الرجال في بذلات العمل الزرقاء يتحركون في كل مكان حول السقالة. في الخلف وإلى الشمال الغربي، ارتفعت قمة لامعة من السحب مزدهرة باقتضاب كثمرة قرنبيط. أوه، يا ليتها تمطر! عندما فكرت في الأمر، سمعت هدير رعد منخفضا أعلى صخب البناء وحركة المرور. أوه، يا ليتها تمطر!
كانت إلين قد علقت لتوها ستارة من قماش منقوش بالزهور في النافذة كي تخفي بنمطه الملطخ بأزهار حمراء وأرجوانية مظهر الأفنية الخلفية المهجورة والجوانب القرميدية لمنازل وسط المدينة. في منتصف الغرفة الفارغة كانت هناك أريكة سرير تثقلها فناجين شاي، وطبق تسخين وضيافة نحاسي، ودورق قهوة، وتناثر على الأرضية الصفراء ذات الخشب الصلب قصاصات من القماش المنقوش بالزهور، ومشابك الستائر، والكتب، والفساتين، ومفارش السرير التي تعاقبت من صندوق في الركن، وانبعثت من ممسحة جديدة عند المدفأة رائحة زيت الأرز. كانت إلين تميل إلى الجدار مرتدية كيمونو بلون النرجس الأصفر، وكانت تنظر سعيدة في أنحاء الغرفة الكبيرة التي تشبه في شكلها صندوق أحذية عندما أفزعها صوت بوق سيارة. دفعت خصلة شعر عن جبهتها وضغطت على زر الترباس. كان ثمة نقر خفيف على الباب. وكانت هناك امرأة واقفة في ظلام الردهة. «عجبا يا كاسي، لم أستطع التعرف عليك. ادخلي ... ما الأمر؟» «أمتأكدة أنني لا أتطفل عليك؟» «بالطبع لا.» مالت إلين لتعطيها قبلة صغيرة خفيفة. كانت كاساندرا ويلكنز شديدة الشحوب، وكان ثمة ارتعاش قلق حول جفنيها. «يمكنك أن تعطيني نصيحة. أعلق ستائري لتوي ... انظري، هل تظنين أن الأرجواني يتماشى مع الجدار الرمادي؟ يبدو لي غريبا بعض الشيء.» «أظن أنه جميل. يا لها من غرفة جميلة! كم ستكونين سعيدة هنا!» «ضعي طبق التسخين والضيافة هذا على الأرضية واجلسي. سأعد بعض الشاي. هناك حمام ومطبخ صغير في التجويف هناك.» «هل أنت متأكدة من أنني لن أتسبب في أي متاعب لك؟» «بالطبع لا ... ولكن يا كاسي ما خطبك؟» «أوه، كل شيء ... أتيت كي أخبرك ولكني لا أستطيع. لا يمكنني أن أخبر أحدا على الإطلاق.» «أنا في غاية الحماس لهذه الشقة. تخيلي يا كاسي، هذا أول مكان أملكه على الإطلاق في حياتي. يريد أبي أن أعيش معه في مدينة باسيك، ولكني شعرت أنه لا يمكنني ذلك.» «وماذا عن السيد أوجليثورب ...؟ أوه، تلك وقاحة مني ... سامحيني يا إلين. أكاد أجن. لا أعرف ما الذي أقوله.» «أوه، جوجو عزيز علي. إنه حتى سيسمح لي بتطليقه إن أردت ... هل تطلقينه لو كنت مكاني؟» دون أن تنتظر إجابة اختفت بين الباب القابل للطي. ظلت كاسي محدبة جسمها فوق حافة الأريكة.
رجعت إلين بإبريق شاي أزرق في إحدى يديها ووعاء من المياه المتبخرة في الأخرى. «هل تريدين ليمونا أم قشدة؟ يوجد بعض السكر فوق المدفأة. هذه الأكواب نظيفة فقد غسلتها للتو. ألا تظنين أنها جميلة؟ أوه، لا يمكنك أن تتخيلي الروعة والألفة التي تشعرين بها عندما يكون لديك مكان لك وحدك. أكره العيش في فندق. صدقا، هذا المكان يجعلني أشعر بألفة شديدة ... بالطبع الشيء السخيف هو أنني على الأرجح سأضطر إلى التخلي عنه أو تأجيره بمجرد أن أنتهي من إعداده إعدادا أنيقا. سأذهب مع العرض في جولة في غضون ثلاثة أسابيع. أريد أن أخرج من هذا العرض ولكن هاري جولدوايزر لن يسمح لي.» كانت كاسي تأخذ رشفات صغيرة من الشاي بملعقتها. أجهشت بالبكاء بصوت منخفض. «يا إلهي، ابتهجي يا كاسي، ما الأمر؟» «أوه، أنت محظوظة في كل شيء يا إلين وأنا بائسة للغاية.» «عجبا، لطالما ظننت أنني ملكة الحظ السيئ، ولكن ما الأمر؟»
وضعت كاسي فنجانها ودفعت بيديها المطبقتين إلى عنقها. قالت بصوت مختنق: «إنه فقط ... أظن أنني سأرزق بمولود.» أنزلت رأسها فوق ركبتيها وبكت. «هل أنت متأكدة؟ الجميع لديهم مخاوف دائما من هذا الأمر.» «أردت أن يظل حبنا نقيا وجميلا دائما، ولكنه قال إنه لن يراني مطلقا مرة أخرى إذا لم ... وأنا أكرهه.» كانت تلفظ بالكلام كلمة كلمة بين تشنجاتها المتقطعة. «لم لا تتزوجان؟» «لا أستطيع. لن أفعل ذلك. سيفسد هذا علي حياتي المهنية.» «متى عرفت بالحمل؟» «أوه، لا بد أن ذلك كان قبل 10 أيام من غير ريب. أعلم أنه ... لا أريد أي شيء سوى احترافي للرقص.» توقفت عن البكاء واستأنفت أخذ بعض رشفات الشاي.
مشت إلين جيئة وذهابا أمام المدفأة. «اسمعي يا كاسي، لا داعي للانزعاج من الأمر، أليس كذلك؟ أعرف امرأة ستساعدك ... رجاء اجمعي شتات نفسك.» «أوه، لا يمكنني، لا يمكنني.» ... انزلق صحن الفنجان من فوق ركبتيها وانكسر إلى نصفين على الأرض. «أخبريني يا إلين، هل تعرضت لهذا الأمر من قبل؟ ... أوه، أنا في غاية الأسف. سأشتري لك صحنا آخر يا إلين.» نهضت بترنح ووضعت الفنجان والملعقة فوق المدفأة. «أوه، بالطبع تعرضت لذلك. عانيت وقتا عصيبا في بداية زواجنا ...» «أوه يا إلين، أليس كل ذلك بشعا؟ كان من شأن الحياة أن تكون غاية في الجمال والحرية والطبيعية دون ذلك ... يمكنني الشعور بالرعب يزحف إلي، يقتلني.»
قالت إلين بخشونة: «الأمور هكذا على الأرجح.»
Unknown page