الجزء الأول
1 - منزلق العبارات
2 - الحاضرة
3 - دولارات
4 - القضبان
5 - المدحلة البخارية
الجزء الثاني
1 - سيدة عظيمة على حصان أبيض
2 - جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
3 - ضجة سريعة
Unknown page
4 - سيارة الإطفاء
5 - الذهاب إلى معرض الحيوانات
6 - خمس مسائل قانونية
7 - الأفعوانية
8 - نهر واحد أخير للأردن
الجزء الثالث
1 - المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة
2 - تذكرة سينما بنيكل واحد
3 - الأبواب الدوارة
4 - ناطحة السحاب
Unknown page
5 - عبء نينوى
الجزء الأول
1 - منزلق العبارات
2 - الحاضرة
3 - دولارات
4 - القضبان
5 - المدحلة البخارية
الجزء الثاني
1 - سيدة عظيمة على حصان أبيض
2 - جاك ذو السيقان الطويلة الذي أتى من البرزخ
Unknown page
3 - ضجة سريعة
4 - سيارة الإطفاء
5 - الذهاب إلى معرض الحيوانات
6 - خمس مسائل قانونية
7 - الأفعوانية
8 - نهر واحد أخير للأردن
الجزء الثالث
1 - المدينة المبتهجة الساكنة مطمئنة
2 - تذكرة سينما بنيكل واحد
3 - الأبواب الدوارة
Unknown page
4 - ناطحة السحاب
5 - عبء نينوى
تحويلة مانهاتن
تحويلة مانهاتن
تأليف
جون دوس باسوس
ترجمة
ياسمين العربي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
Unknown page
الجزء الأول
الفصل الأول
منزلق العبارات
تدور ثلاثة نوارس فوق الصناديق المكسورة، وقشر البرتقال، ورءوس الملفوف الفاسدة التي تتمايل بين الجدران الخشبية المتشققة، والأمواج الخضراء المتزبدة أسفل المقدمة المستديرة للعبارة، التي يدفعها المد فتضرب المياه المندفعة وترتشفها بنهم، منزلقة ومستقرة ببطء في المنزلق. تدور الرافعات اليدوية مصلصلة سلاسلها. تطوى البوابات لأعلى، وتسرع الأقدام في الخطى خروجا عبر الفرجة، ويندفع الرجال والنساء عبر النفق الخشبي الكريه الرائحة لرصيف العبارات، متدافعين ومتلاصقين كتفاحات تعبأ في قمع عصارة فواكه.
تمسك ممرضة بسلة بطول ذراعها كما لو كانت نونية سرير، وتفتح الباب على غرفة ساخنة وجافة وكبيرة ذات جدران مطلية بطلاء مائي يميل لونه إلى اللون الأخضر، حيث يتعكر الهواء بروائح الكحول واليودوفورم المعلق مع حامض آخر خافت الرائحة، والتي تنطلق قوية من سلال أخرى على طول الحائط. عندما وضعت سلتها، ألقت عليها نظرة خاطفة زامة شفتيها. كانت الطفلة الحديثة الولادة تتلوى وسط القطن الطبي، واهنة القوى كأنشوطة من ديدان الأرض.
كان ثمة رجل هرم على متن العبارة يعزف على آلة الكمان. كان له وجه كوجه قرد مجعد في إحدى زواياه، وكان يضبط إيقاع عزفه بتحريك إصبع يظهر من حذائه المشقوق المصنوع من الجلد اللامع. جلس بود كوربينينج على السور يشاهده، وظهره إلى النهر. جعل النسيم شعره يتحرك حول الحافة الرفيعة لقبعته، وجفف العرق على صدغيه. كانت قدماه متقرحتين، وكان منهكا حد الشحوب، ولكن عندما خرجت العبارة من المنزلق، راكلة موجات النهر الملتفة والمتلاطمة، شعر بشيء دافئ ووخز ينطلق فجأة في جميع عروقه. سأل شابا يرتدي قبعة قشية وربطة عنق مخططة باللونين الأزرق والأبيض كان يقف بجانبه: «أخبرني يا صديقي، كم تبعد المدينة من مكان رسو هذه العبارة؟»
انتقلت نظرة الشاب لأعلى من حذاء بود الذي أثخنه السير على الطريق إلى معصمه الأحمر الذي خرج من كم معطفه الرثة، مارا بحلقه الأشبه بحلق ديك رومي هزيل، ومنسلا بغطرسة لأعلى إلى عينيه المتوقدتين أسفل قبعته المكسورة الحافة. «يعتمد هذا على المكان الذي تريد أن تذهب إليه.» «كيف أصل إلى برودواي؟ ... أريد أن أصل إلى مركز كل شيء.» «سر شرقا مسافة مربع سكني، وانعطف إلى شارع برودواي، وستجد مركز كل شيء إذا مشيت لمسافة كبيرة بما يكفي.» «شكرا لك يا سيدي. سأفعل ذلك.»
كان عازف الكمان يمر بين الحشد حاملا قبعته، والريح تجعد خصلات الشعر الرمادي على رأسه الأصلع الأجرد. وجد بود أن وجه الرجل يميل لأعلى نحوه بعينيه المنسحقتين كدبوسين سوداوين ينظران إلى وجهه. قال بصوت أجش: «ليس معي شيء»، واستدار ناظرا لرحابة النهر في لمعته كأنصال السكاكين. انغلقت الجدران الخشبية للمنزلق، متصدعة عندما ترنحت العبارة تجاهها؛ فصدرت قعقعة السلاسل، ودفع بود إلى الأمام بين الحشد عبر مبنى محطة العبارات. سار بين عربتي فحم، وخرج إلى شارع فسيح يملؤه الغبار باتجاه عربات الترام الصفراء. انتابت ركبتيه رجفة. دس يديه عميقا في جيبيه. «مأكولات»، هكذا كان مكتوبا على لافته عربة طعام في منتصف المربع السكني. ارتمى بقوة على كرسي دوار بلا ظهر أو ذراعين، ونظر طويلا في قائمة الأسعار. «بيض مقلي وكوب من القهوة.»
سأل الرجل ذو الشعر الأحمر في الجهة الأخرى من المنضدة، والذي كان يمسح ساعديه البدينين المبقعين بالنمش بمئزره: «أتريده مطهوا على جانبين؟» قام بود كوربينينج جافلا. «ماذا؟» «البيض؟ هل تريده مطهوا على جانبين أم جانب واحد؟» «أوه، بالتأكيد، على جانبين.» ارتمى بود إلى المنضدة مرة أخرى ورأسه بين يديه.
قال الرجل وهو يكسر البيض فوق الشحم المتناثر في المقلاة: «تبدو متعبا للغاية يا رجل.» «جئت من شمال البلاد. ومشيت 15 ميلا هذا الصباح.»
Unknown page
أصدر الرجل صوت صفير من بين أنيابه. «أتيت إلى المدينة الكبيرة للبحث عن عمل، أليس كذلك؟»
أومأ بود موافقا. وضع الرجل البيض وهو لا يزال ساخنا ويتخلله بعض اللون البني على الطبق ودفعه في اتجاه بود مع بعض الخبز والزبد على حافته. «سأقدم لك نصيحة صغيرة يا صاحبي، ولن تكلفك شيئا. اذهب واحلق ذقنك، وقص شعرك، وانفض قليلا عن بذلتك بذور القش تلك قبل أن تبدأ في البحث عن عمل. ستزيد فرصتك بذلك في الحصول على شيء. فالمظهر هو ما يهم في هذه المدينة.»
قال بود هادرا، وفمه مملوء بالطعام: «يمكنني العمل بكفاءة. أنا عامل جيد.»
قال الرجل ذو الشعر الأحمر قبل أن يعود إلى موقده: «صدقني، هذا هو كل شيء.» •••
كان إد تاتشر يرتجف عندما صعد الدرجات الرخامية لمدخل المستشفى الفسيح. علقت رائحة الدواء في حلقه. وكانت امرأة ذات وجه متيبس تنظر إليه من فوق سطح مكتبها. فحاول التحكم في صوته. «هل يمكنك أن تخبريني كيف حال السيدة تاتشر؟» «أجل، يمكنك الصعود.» «ولكن من فضلك يا آنسة، هل كل شيء على ما يرام؟» «ستجد الممرضة في الطابق لديها جميع المعلومات حول الحالة. الدرج إلى اليسار، الطابق الثالث، جناح الولادة.»
كان إد تاتشر يحمل مجموعة من الزهور ملفوفة في ورق هدايا أخضر. كان يشعر بأن الدرج الواسع يتمايل أسفل خطواته المتعثرة، وتصطدم أطراف قدميه بالقضبان النحاسية التي تثبت الحصيرة المصنوعة من الألياف. قطع إغلاق الباب صرخة مخنوقة. أوقف إحدى الممرضات. «أريد أن أرى السيدة تاتشر من فضلك.» «تفضل إذا كنت تعرف مكانها.» «لكنهم نقلوها.» «عليك أن تسأل عند المكتب في نهاية الردهة.»
عض على شفتيه الباردتين. وفي نهاية الردهة، نظرت إليه مبتسمة امرأة زهراء الوجه. «كل شيء على ما يرام. أنت أب سعيد لطفلة مفعمة بالحيوية.»
قال متلعثما بعينين طارفتين: «إنها أول مولود لنا، وسوزي بالغة الرقة.» «أوه، أجل، أتفهم ذلك، كنت قلقا بطبيعة الحال ... يمكنك الدخول والتحدث إليها عندما تستيقظ. ولدت الطفلة منذ ساعتين. احرص على ألا تتعبها.»
كان إد تاتشر رجلا صغير الجسم ذا خصلتين من الشعر الأشقر في شاربه وعينين رماديتين باهتتين. أمسك بيد الممرضة وصافحها كاشفا بابتسامة عن جميع أسنانه الصفراء غير المستوية. «كما تعلمين إنها مولودنا الأول.»
قالت الممرضة: «تهاني.»
Unknown page
اصطفت الأسرة أسفل مصباح الغاز الصفراوي، وانبعثت رائحة المرض الكريهة من الملاءات التي يتلوى فوقها المرضى بلا هوادة، وثمة وجوه سمينة، وهزيلة، وصفراء، وبيضاء، وها هي. كان شعر سوزي الأصفر في لفافة فضفاضة حول وجهها الأبيض الصغير، الذي بدا ذابلا ومنكمشا. فك لفافة الورود ووضعها على منضدة السرير الجانبية. كان النظر من النافذة كالنظر إلى الأسفل في الماء. كانت الأشجار في الساحة متشابكة كبيوت العنكبوت الزرقاء. كانت مصابيح المربعات السكنية المميزة يتقدم نورها في الجادة باللون الأرجواني الضارب إلى القرميدي ذي لمعة خضراء، وكانت أبراج المداخن وخزانات المياه تشق بحدة سماء متوردة كاللحم. رفع الجفنان الزرقاوان عن عينيها. «أهذا أنت يا إد؟ ... عجبا يا إد، إنها ورود جاك. يا لإسرافك.» «لم أستطع مقاومتها يا عزيزتي. فأنا أعلم أنك تحبينها.»
كانت إحدى الممرضات تمشي بالقرب من طرف السرير. «ألا يمكنك أن تسمحي لنا برؤية الطفلة يا آنسة؟»
أومأت الممرضة. كانت امرأة باهتة الوجه ذات فك هزيل وشفتين مطبقتين.
همست سوزي قائلة: «إنني أكرهها. فهي تثير عصبيتي كما تفعل النساء؛ إنها لا تعدو كونها خادمة عجوزا خسيسة.» «لا تهتمي لأمرها يا عزيزتي؛ فما هو سوى يوم أو يومين ...» أغلقت سوزي عينيها. «أما زلت تريد أن تسميها إلين؟»
ذهبت الممرضة وعادت بسلة ووضعتها على السرير بجوار سوزي.
قال إد: «أوه، أليست رائعة! انظري، إنها تتنفس ... وقد رطبوا جسمها بالزيت.» ساعد بذراعيه زوجته في رفع نفسها على السرير؛ فانفكت اللفافة الصفراء فوق شعرها، وسقطت على يده وذراعه. «كيف يمكنك تمييز الأطفال أيتها الممرضة؟»
قالت الممرضة، وهي تمد فمها في ابتسامة: «أحيانا لا يمكننا ذلك.» كانت سوزي تنظر بارتياب إلى ذلك الوجه الأرجواني الدقيق القسمات. «هل أنت متأكدة من أن هذه طفلتي.» «بالطبع.» «ولكنكم لم تضعوا أي بطاقة تعريف لها.» «سأضع لها بطاقة في الحال.» «لكن طفلتي كانت سمراء.» أسندت سوزي ظهرها على الوسادة، لاهثة لالتقاط أنفاسها. «إن لديها قليلا من الزغب الفاتح الجميل في لون شعرك تماما.»
مدت سوزي ذراعيها أمام رأسها، وصرخت قائلة: «إنها ليست طفلتي. ليست طفلتي. خذيها بعيدا ... تلك المرأة سرقت طفلتي.» «عزيزتي، أرجوك! عزيزتي، أرجوك!» وحاول تدثيرها بالأغطية.
قالت الممرضة بهدوء وهي ترفع السلة: «إن حالتها سيئة للغاية. سأضطر إلى إعطائها مهدئا.»
جلست سوزي متصلبة في السرير. صاحت ودخلت في نوبات هستيرية، مطلقة صراخا مستمرا ذا أنين خائر القوى: «خذيها بعيدا.»
Unknown page
صاح إد تاتشر مشبكا يديه: «يا إلهي!» «يستحسن أن تغادر الليلة يا سيد تاتشر ... ستهدأ، بمجرد رحيلك ... سأضع الورود في الماء.»
في الطابق الأخير، تعرف على رجل ممتلئ الجسم كان يمشي ببطء فاركا يديه عندما مر به. التقت عيونهما.
سأل الرجل البدين: «هل كل شيء على ما يرام يا سيدي؟»
قال تاتشر بوهن: «أوه أجل، أظن ذلك.»
التفت إليه الرجل البدين، وقد فاضت البهجة عبر صوته الثخين. «هنئني، هنئني؛ لقد أنجبت زوجتي ولدا.»
صافح تاتشر يده الصغيرة البدينة. وقال على استحياء: «أما أنا فزوجتي أنجبت بنتا.» «إنها خامس سنة، وفي كل مرة تنجب بنتا، والآن ها هو، ولد.»
قال إد تاتشر، وهما يخرجان إلى الرصيف: «أجل، إنها لحظة عظيمة.» «هلا تسمح لي أن أدعوك لاحتساء مشروب تهنئة معي؟» «بالطبع، يسعدني ذلك.»
كانت الأجزاء العلوية للأبواب ذات الشبكات تتأرجح في الحانة عند ناصية الجادة الثالثة. ماسحين نعليهما تأدبا، دخلا إلى الغرفة الخلفية.
قال الرجل الألماني عندما جلسا إلى طاولة بنية ذات ندبات: «أوه، إن الحياة العائلية مليئة بالهموم .» «أهي كذلك يا سيدي؛ فهذه هي المرة الأولى التي أحظى فيها بمولود.» «هل ستشرب الجعة؟» «لا بأس، أي شيء يناسبني.» «زجاجتا جعة كالمباتشر لضيفينا المرهقين.» أصدرت الزجاجتان فرقعة عند فتحهما، وارتفعت الرغوة البنية الداكنة في الكأسين. قال الألماني، رافعا كأسه: «من أجل نجاحنا ... في صحتك.» فرك الرغوة من فوق شاربه، وضرب الطاولة بقبضته الوردية. «هل سيكون من غير المناسب يا سيد ...؟» «اسمي تاتشر.» «هل سيكون من غير المناسب يا سيد تاتشر أن أسألك عن مهنتك؟» «محاسب. آمل أن أصبح محاسبا معتمدا في القريب العاجل.» «أنا عامل طباعة، واسمي زوكر، ماركوس أنطونيوس زوكر.» «سررت بمعرفتك يا سيد زوكر.»
تصافحا عبر الطاولة بين الزجاجتين.
Unknown page
قال السيد زوكر: «يجني المحاسب المعتمد الكثير من المال.» «بالفعل علي أن أجني الكثير من المال لطفلتي الصغيرة.»
تابع السيد زوكر قائلا بصوت عميق: «إن الأطفال يلتهمون المال.»
قال تاتشر، حاسبا كم من المال معه في جيبه: «لم لا تسمح لي أن أعزمك على زجاجة أخرى؟» لن يروق لسوزي المسكينة أن أشرب في حانة كهذه. ولكن هذه المرة فقط، وسأتعلم، سأتعلم الأبوة.
قال السيد زوكر: «كلما استزدنا، كان ذلك أكثر مرحا ... لكن الأطفال يلتهمون المال ... إنهم لا يفعلون شيئا سوى تناول الطعام وارتداء الملابس. بمجرد أن أقف على قدمي في عملي ... أوه! الآن مع رهانات الديون وصعوبة اقتراض المال، ومع ارتفاع الأجور وهؤلاء الاشتراكيين الكسالى من نقابات العمال وقاذفي القنابل ...» «هذا هو الحال يا سيد زوكر.» أزال السيد زوكر الرغوة من فوق شاربه بإبهامه وسبابته. «إننا لا نأتي بطفل ذكر إلى العالم كل يوم يا سيد تاتشر.» «أو بطفلة يا سيد زوكر.»
مسح الساقي قطرات الشراب من فوق الطاولة عندما جلب الزجاجتين الأخريين، ووقف بجوارهما مستمعا والخرقة تتدلى من يديه الحمراوين. «وآمل من كل قلبي أن يشرب ابني نبيذ الشامبانيا عندما يحتفل بميلاد ابنه. أوه، هكذا تسير الأمور في هذه المدينة الكبيرة.» «أود أن تصبح ابنتي بيتوتية هادئة، ليست كهؤلاء النساء هذه الأيام حيث الكشكشات، والزركشات، ومشدات الخصر الضيقة. وسأكون قد تقاعدت في ذلك الوقت واشتريت منزلا صغيرا على نهر هدسون، وسأعتني بحديقة المنزل في المساء ... أعرف رجالا في مركز المدينة تقاعدوا بمعاش 3000 دولار أمريكي في العام. السر في الادخار.»
قال الساقي: «أنا لا أجيد الادخار. فقد ادخرت لمدة 10 سنوات وأفلس مصرف الادخار ولم يترك لي شيئا سوى دفتر حساب مسجل به مأساتي. احصل على نصيحة من داخل المجال واغتنم الفرصة، هذا هو النظام الوحيد الناجح.»
قاطعه تاتشر، قائلا: «ما هذه سوى مقامرة.»
قال الساقي، وهو يرجع إلى منضدة الحانة مؤرجحا الزجاجتين الفارغتين: «بالفعل يا سيدي، إنها لعبة قمار.»
قال السيد زوكر ناظرا للأسفل إلى جعته بعين متأملة ومتلألئة: «لعبة قمار. لم يبعد عن حقيقة الأمر. الرجل الطموح يجب أن يغتنم الفرص. فالطموح أتى بي إلى هنا من فرانكفورت في عمر الثانية عشرة، والآن وقد أصبح لدي ابن كي أعمل من أجله ... أوه، يجب أن أسميه فيلهلم على اسم القيصر العظيم.» «سيكون اسم ابنتي الصغيرة إلين على اسم والدتي.» اغرورقت عينا إد تاتشر بالدموع.
نهض السيد زوكر. «حسنا، وداعا يا سيد تاتشر. سعدت بمعرفتك. يجب أن أذهب إلى المنزل لبناتي الصغيرات.»
Unknown page
صافح تاتشر يد الرجل البدينة مجددا، وتبادرت إلى ذهنه أفكار حميمية ولطيفة عن الأمومة والأبوة، وكعكات عيد الميلاد، وأعياد الكريسماس، التي تخيلها وهو ينظر إلى ضباب الرغوة البنية الداكنة، بينما يتمايل السيد زوكر خارجا عبر البابين المتأرجحين. بعد برهة، مدد ذراعيه. بالتأكيد لن يروق لسوزي المسكينة أن آتي إلى هنا ... كل شيء من أجلها ومن أجل ابنتنا.
صاح الساقي ذاهبا وراءه عندما وصل إلى الباب: «يا أنت، أين المال؟» «ألم يدفع الرجل الآخر؟» «لم يدفع.» «ولكنه عزمني ...»
ضحك الساقي وهو يغطي المال بيده الحمراء. «أظن أن هذا الممتلئ يؤمن بالادخار.» •••
مشى في شارع ألين رجل صغير البنية متقوس الساقين وملتح ويرتدي قبعة دربية، وصعد إلى النفق المخطط بأشعة الشمس، والمعلقة عليه ألحفة باللون الأزرق السماوي، ولون السلمون المدخن، ولون الخردل الأصفر، ويمتلئ بالأثاث المستعمل بلون كعك الزنجبيل . مشى ويداه الباردتان قابضتان على أطراف سترته المشقوقة الذيل، متلمسا طريقه بين صناديق التعبئة والأطفال الراكضين. ظل يعض شفتيه ويشبك يديه ويحلهما. مشى دون أن يسمع هتافات الأطفال أو الضجة المدمرة للقطارات السريعة من فوقه، ودون أن يشم الرائحة الكريهة للمباني المكدسة.
توقف أمام صيدلية مطلية باللون الأصفر عند ناصية شارع القنال، وحدق بذهول في وجه على بطاقة إعلانات خضراء. كان وجها شهيرا لرجل عالي الجبين وحليق الذقن له حاجبان مقوسان وشارب كثيف مشذب بعناية، وجها لرجل لديه أموال في المصارف، ويعلو بشكل يناسبه ياقة ذات طرفين أنيقين ورابطة عنق داكنة وكبيرة. أسفل الوجه بكتابة ككتابات الدفاتر، كان هناك إمضاء باسم كينج كامب جيليت. ورفرف فوق رأسه الشعار «وداعا للسن وداعا للشحذ». دفع الرجل الملتحي الصغير البنية بقبعته الدربية بعيدا عن جبينه المتعرق، ونظر طويلا لعيني كينج كامب جيليت المتلألئتين بالدولارات. ثم ضم قبضتي يديه، وفرد كتفيه ودخل إلى الصيدلية.
كانت زوجته وبناته بالخارج. سخن إبريقا من المياه على موقد الغاز. ثم باستخدام المقص الذي وجده فوق رف الموقد، قص الخصلات الطويلة للحيته البنية. ثم بدأ في حلاقتها بعناية شديدة بالشفرة الآمنة الجديدة التي تلمع لمعان النيكل. وقف مهتزا ممررا أصابعه على وجنتيه البيضاوين الناعمتين أمام المرآة الملونة. كان يرجل شاربه عندما سمع صوتا خلفه. استدار نحوهن بوجه ناعم كوجه كينج كامب جيليت، وجه بابتسامة وقور. كادت عيون الفتاتين الصغيرتين تخرج من رأسيهما. صاحت الفتاة الكبرى: «أمي ... إنه أبي.» سقطت زوجته كسلة غسيل فوق الكرسي الهزاز، وألقت بمئزرها من فوق رأسها.
وصاحت متأرجحة ذهابا وإيابا: «يا إلهي! يا إلهي!» «ما الأمر؟ ألا يعجبك؟» مشى جيئة وذهابا والشفرة الآمنة تلمع في يده، متحسسا ذقنه الناعم بين الحين والآخر.
الفصل الثاني
الحاضرة
في الماضي كانت بابل ونينوى، وقد بنيت كل منهما بالطوب. وكانت أثينا، ذات أعمدة من الرخام والذهب. وروما التي شيدت على أقواس فسيحة من الحطام. وفي القسطنطينية، توهجت المآذن كشموع ضخمة حول القرن الذهبي ... ولكن الفولاذ، والزجاج، والبلاط، والأسمنت، ستكون مواد ناطحات السحاب. ستظل براقة تلك الأبنية ذات الملايين من النوافذ المتراصة على الجزيرة الضيقة، في هرم فوق آخر كرأس سحابة بيضاء فوق عاصفة رعدية.
Unknown page
عندما أغلق باب الغرفة خلفه، شعر إد تاتشر بالوحدة الشديدة؛ حيث سيطرت عليه حالة من التململ الشديد. فقط لو كانت سوزي هنا، لكان أخبرها عن المال الكثير الذي كان سيجنيه، وكيف أنه سيودع 10 دولارات في مصرف الادخار كل أسبوع من أجل إلين الصغيرة؛ هذا المبلغ سيتضاعف إلى 520 دولارا في السنة ... وفي غضون 10 سنوات من دون الفائدة سيتضاعف إلى ما يزيد على 5000 دولار. ينبغي أن أحسب الفائدة المركبة على 5000 و20 دولارا بنسبة 4٪. مشى بحماس في أرجاء الغرفة الضيقة. أصدر موقد الغاز صريرا هادئا كالقطط. وقعت عيناه على العنوان الرئيسي في صحيفة ملقاة على الأرض بجوار دلو الفحم حيث أسقطها في أثناء ركضه كي يلحق بسيارة أجرة ليأخذ سوزي إلى المستشفى.
مورتون يوقع على بيان مدينة نيويورك الكبرى مصدقا
على القانون الذي سيجعل نيويورك أكبر ثاني حاضرة في العالم
طوى الصحيفة وهو يستنشق نفسا عميق ووضعها على الطاولة. أكبر ثاني حاضرة في العالم ... وكان أبي يريدني أن أقف في متجره التافه القديم في أونيورا. ربما كنت سأفعل ذلك لولا وجود سوزي ... أيها السادة المحترمون، بما أنكم قد منحتموني الليلة هذا الشرف الفريد بعرضكم علي الشراكة المبدئية في شركتكم، أود أن أقدم لكم فتاتي الصغيرة، زوجتي. أدين لها بكل شيء.
عندما انحنى أمام الموقد لتحيتهم، لامس ذيل معطفه قطعة من الصيني وأوقعها من فوق البوفيه بجوار خزانة الكتب. وقف ليلتقطها مصدرا صوت طقطقة خفيفا بملامسة لسانه لأسنانه. كسر رأس الدمية البورسلين الهولندية الزرقاء من جسمها. «والمسكينة سوزي مغرمة بدمياتها. يجدر بي الذهاب للفراش.»
رفع النافذة ومد جسمه خارجها. مر قطار سريع مدو في نهاية الشارع. لسعت نفثة من دخان الفحم فتحتي أنفه. تدلى من النافذة لفترة طويلة ناظرا للشارع يمنة ويسرة. ثاني أكبر حاضرة في العالم وسط المنازل المبنية من الطوب، وضوء المصابيح المكدر، وأصوات مجموعة من الصبية يمزحون ويتشاجرون فوق درج منزل في الجهة المقابلة، والخطوات الثابتة المعتادة لرجل شرطة، شعر بمسيرة كمسيرات الجنود، كباخرة دولابية تعبر نهر هدسون أسفل طريق باليساديس، كموكب انتخابي، عبر الشوارع الطويلة وفي اتجاه شيء طويل، وأبيض، ومهيب، ومليء بصفوف الأعمدة. إنها الحاضرة.
امتلأ الشارع فجأة بأشخاص يركضون. أعلن شخص يلهث عن اندلاع حريق. «أين؟»
انزوت مجموعة الصبية في المنعطف في الجهة المقابلة للطريق. رجع تاتشر أدراجه إلى الغرفة. كانت حرارتها خانقة. كان جسده يرتعد بالكامل لدرجة لا يمكنه معها البقاء في الخارج. ينبغي أن أذهب إلى الفراش. سمعت من الشارع أصوات الحوافر القوية وجرس سيارة الإطفاء الهستيري. فليلق نظرة. ركض نازلا الدرج وقبعته في يده. «في أي اتجاه؟» «في المربع السكني التالي.» «إنه مبنى سكني.»
كان مبنى سكنيا من ستة طوابق وذا نوافذ ضيقة. كان الخطاف والسلم قد رفعا للتو. وكان الدخان البني يتدفق سريعا من النوافذ السفلية متبوعا ببعض الشرارة هنا وهناك. كان ثلاثة من رجال الشرطة يؤرجحون هراواتهم وهم يدفعون بالحشد للخلف بعيدا عن سلالم المنازل وقضبانها في الجهة المقابلة. في المساحة الفارغة في منتصف الشارع، لمعت سيارة الإطفاء والعربة الحمراء ذات الخرطوم بلون نحاسي براق. شاهد الناس الموقف في صمت محدقين في النوافذ العليا حيث تحركت الظلال وومض ضوء من حين لآخر. بدأ عمود رفيع من اللهب يضطرم فوق المنزل كشمعة رومانية.
همس رجل في أذن تاتشر، قائلا: «المنور.» ملأت عصفة ريح الشارع بالدخان وبرائحة كرائحة الخرق المحترقة. شعر تاتشر على حين غفلة بالإعياء. عندما انقشع الدخان، رأى أناسا معلقين في حشود راكلين، معلقين من أياديهم من حافة إحدى النوافذ. وكان رجال الإطفاء على الجانب الآخر يساعدون النساء على نزول أحد السلالم. توهج اللهب في منتصف المنزل توهجا أكثر سطوعا. وسقط شيء أسود من إحدى النوافذ ممددا على الرصيف صارخا. كان رجال الشرطة يدفعون الحشد للخلف إلى أطراف المربع السكني. وتوالى وصول سيارات إطفاء جديدة.
Unknown page
قال رجل: «لديهم خمسة أجهزة إنذار حرائق بالداخل. ما رأيك في ذلك؟ كل شخص منهم في الطابقين العلويين كان محبوسا. إنه حريق متعمد. أشعله شخص لعين مهووس بالحرائق.»
جلس شاب مكوما على حافة الرصيف بجوار مصباح الغاز. وجد تاتشر نفسه واقفا بجواره مدفوعا بالحشد من خلفه. «إنه إيطالي.» «زوجته في ذلك المبنى.» «لا تسمح له الشرطة بالدخول.» «زوجته حامل. لا يمكنه التحدث بالإنجليزية ليسأل رجال الشرطة عنها.»
كان الرجل ذو الحمالات الزرقاء مقيدا بحبل من الخلف. كان يحرك ظهره في اضطراب، ويطلق من حين لآخر وابلا من الأنين بكلمات لا يفهمها أحد.
كان تاتشر يشق طريقه خروجا من بين الحشد. كان ثمة رجل عند الناصية ينظر في صندوق إنذار الحريق. وعندما لامسه تاتشر وهو يمر بجواره، شم رائحة زيت الفحم الحجري منبعثة من ملابس الرجل. نظر الرجل لأعلى إلى وجهه مبتسما. كان ذا وجنتين سمينتين متدليتين وعينين جاحظتين وامضتين. بردت يدا تاتشر وقدماه فجأة. إنه المهووس بإشعال الحرائق. تقول الصحف إن أمثاله يتجولون حول الحادث هكذا لمشاهدته. مشى مسرعا إلى المنزل، وصعد الدرج، وأغلق باب الغرفة وراءه. كانت الغرفة هادئة وفارغة. كان قد نسي أن سوزي لن تكون هناك في انتظاره. بدأ في خلع ملابسه. ولم يكن ليستطيع أن ينسى رائحة زيت الفحم الحجري على ملابس الرجل. •••
حرك السيد بيري أوراق الأرقطيون بعصاه. وكان وكيل العقارات يستجديه بصوت منغم: «لا أخفي عليك يا سيد بيري، إنها فرصة لا تفوت. تعرف المقولة القديمة يا سيدي ... لا تطرق الفرصة باب المرء في شبابه سوى مرة واحدة. يمكنني في غضون ستة أشهر أن أضمن لك أن قيمة هذه الأرض ستتضاعف تقريبا. وحيث إننا الآن جزء من نيويورك، ثاني أكبر مدينة في العالم، فلا تنس يا سيدي أنه ... سيأتي الوقت، وأنا على يقين تام بأني سأشهده وإياك، حيث يمتد جسر وراء آخر فوق النهر الشرقي جاعلين لونج آيلاند ومانهاتن أرضا واحدة، وحيث يصبح حي كوينز قلب الحاضرة الكبيرة ومركزها النابض بالحياة كشارع أستور بليس اليوم.» «أعلم ذلك، ولكنني أبحث عن شيء آمن تماما. بالإضافة إلى أنني أريد أن أبني. لم تكن زوجتي بصحة جيدة في هذه الأيام القليلة الماضية ...» «ولكن ما الذي عساه أن يكون أكثر أمانا من العرض الذي أقدمه لك؟ هل تدرك يا سيد بيري أنني حتى إن كنت سأتكبد خسارة شخصية جسيمة، فسأتيح لك فرصة الاستثمار قبل أي أحد في أكبر العقارات المضمونة تماما في العصر الحديث. إنني لا أقدم لك الأمان فحسب، بل السهولة، والراحة، والرفاهية. إن موجة كبيرة تسحبنا يا سيد بيري سواء بإرادتنا أم لا، موجة كبيرة من التوسع والتقدم. سيحدث شيء عظيم الشأن في السنوات القليلة القادمة. جميع هذه المخترعات الميكانيكية - الهواتف، والكهرباء، والجسور الفولاذية، والعربات التي تسير بلا جياد - جميعها تقود إلى شيء ما. والأمر يرجع إلينا إذا كنا سندخل إلى هذا التقدم، ونكون في صدارته ... يا إلهي! لا أستطيع أن أصف لك ما الذي سيعنيه هذا ...» ثم بعدما أخذ السيد بيري يلكز بعصاه بين العشب الجاف وأوراق الأرقطيون، أزال شيئا بها. انحنى والتقط جمجمة مثلثة ذات قرنين على شكل قصبة حلزونية. قال: «يا إلهي! لا بد أنها كانت لخروف جيد.» •••
شعر بود بالنعاس من أثر رائحة الرغوة، وعطر ما بعد الحلاقة، والشعر المحروق الذي يثقل جو متجر الحلاقة، فجلس وأومأ برأسه، ويداه الكبيرتان الحمراوان متدليتان بين ركبتيه. ظل صوت المقص يقرع طبلتي أذنيه مذكرا إياه بقرع قدميه على الطريق الذي مشاه جائعا من ناياك. «التالي!» «ماذا؟ ... حسنا، أريد فقط أن أحلق ذقني وأن أقص شعري.»
تحركت يدا الحلاق القصيرتان السمينتان عبر شعره، وأز المقص كدبور خلف أذنيه. ظلت عيناه تغمضان، ففتحهما بسرعة مقاوما النوم. كان بإمكانه أن يرى خلف الملاءة المخططة المبعثر عليها الشعر المرمل ذاك الرأس المتأرجح الأشبه برأس المطرقة للفتى الملون الذي كان يلمع حذاءه.
دندن رجل ذو صوت عميق من فوق الكرسي بجواره: «أجل يا سيدي، إنه الوقت الذي يرشح فيه الحزب الديمقراطي رجلا قويا ...» «هل تريد أن تحلق عنقك كذلك؟» قرب الحلاق وجهه المستدير الدهني البشرة في وجهه.
أومأ بود. «أتريد أن تغسل شعرك بالشامبو ؟» «لا.»
عندما أرجع الحلاق الكرسي ليحلق له، أراد أن يرفع عنقه كسلحفاة طين انقلبت على ظهرها. انتشرت الرغوة على وجهه فأصابته بالنعاس، مخدرة أنفه ومالئة أذنيه. فأصبح مغمورا في الرغوة فيما يشبه سريرا من الريش، رغوة زرقاء، وسوداء، يشقها لمعان الشفرة القصي، كلمعان مجرفة لحرث الأرض عبر سحب من الرغوة السوداء الضاربة إلى الزرقة. أما الرجل الهرم خلفه، الذي كان موجودا في أحد حقول البطاطس، فقد التصقت الرغوة البيضاء على وجهه المليء بالدماء. امتلأ جوربه بالدماء التي كانت تقطر من تلك البثور على عقبيه. شبك يديه ببعضهما باردتين وصلبتين كيدي رجل ميت أسفل غطاء. دعني أقم ... وفتح عينيه. كانت أنامل سمينة تدلك ذقنه. حدق لأعلى في السقف حيث كانت أربع ذبابات تشكل رقم ثمانية حول جرس أحمر مصنوع من الورق الكريبي. كان لسانه كجلد جاف في فمه. عدل الحلاق الكرسي مرة أخرى. نظر بود حوله بعينين طارفتين. «نصف دولار، ونيكل لتلميع الحذاء.» «يعترف بقتل أمه المقعدة ...»
Unknown page
يسمع صوته متثاقلا وسط طنين أذنيه، وهو يقول: «أتمانع أن أجلس هنا دقيقة لقراءة تلك الصحيفة؟» «تفضل.» «يحمي أصدقاء باركر ...»
تتلوى الطباعة السوداء أمام عينيه. الروس ... «يلقي الرعاع الحجارة» ... (إرسال خاص إلى «هيرالد») ترينتون، نيوجيرسي. •••
ناثان سيبتس، صبي في الرابعة عشرة من عمره، ينهار اليوم بعد أسبوعين من الإصرار على إنكار إدانته، ويعترف للشرطة بأنه كان مسئولا عن موت أمه المسنة القعيدة هانا سيبتس، بعد مشاجرة في منزلهما بطريق جيكوبز كريد، على بعد ستة أميال شمال هذه المدينة. كان محتجزا في هذه الليلة في انتظار إجراء هيئة المحلفين الكبرى. «دعم بورت آرثر في مواجهة العدو ... تفقد السيدة ريكس رماد زوجها».
في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من مايو وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، رجعت إلى المنزل بعد أن نمت في المدحلة البخارية طوال الليل، وصعدت إلى غرفتي لأحظى بمزيد من النوم. كنت قد غفوت لتوي عندما صعدت أمي لغرفتي وطلبت مني النهوض مهددة بأنني إن لم أنهض فسترمي بي في الأسفل. أمسكت أمي بي بقوة لتلقيني في الأسفل. ألقيت بها أولا وسقطت في القاع. نزلت الدرج فوجدت أن رأسها كان ملتويا على أحد جانبيه. ثم رأيت أنها قد ماتت، فعدلت عنقها وغطيتها بملاءة. •••
طوى بود الجريدة بعناية، ووضعها على الكرسي وغادر محل الحلاقة. كان الهواء بالخارج تفوح منه رائحة الحشود، زاخرا بالضوضاء وضوء الشمس. لم يكن إلا كإبرة في كومة من القش ... تمتم عاليا: «وأنا في الخامسة والعشرين من عمري.» يفكر في الصبي البالغ الرابعة عشرة من العمر ... ويسير بخطى أسرع على طول الأرصفة الصاخبة حيث تلقي الشمس بأشعتها عبر السكة الحديدية المرتفعة، مخططة الشارع الأزرق بشرائط صفراء مشتعلة ودافئة. ليس سوى إبرة في كومة من القش. •••
جلس إد تاتشر متحدبا فوق مفاتيح البيانو مدندنا بلحن «موسكيتو باريد». تدفق ضوء الشمس لفترة ما بعد ظهيرة يوم الأحد مغبرا عبر ستائر النافذة الدانتيل الثقيلة، وتلوى على الورود الحمراء للسجادة، ونشر خيوطه في أرجاء الردهة غير المرتبة. جلست سوزي تاتشر مسترخية بجوار النافذة تشاهده بعينين زرقاوين بدرجة تبدوان معها فاقعتين على وجهها الشاحب. بينهما، تخطو إلين الصغيرة بأناة راقصة وسط ورود الحقل المشمس على السجادة. أمسكت بيديها الصغيرتين فستانها الوردي المكشكش، وقالت بين الحين والآخر بصوتها الصغير وفي نبرة إصرار: «انظري إلي يا أمي.»
قال تاتشر، وهو لا يزال يعزف: «انظري للطفلة. إنها راقصة باليه صغيرة مثالية.»
ثمة صحائف من جريدة يوم الأحد ملقاة حيث سقطت من الطاولة، بدأت إلين في الرقص عليها، ممزقة إياها أسفل قدميها الصغيرتين الرشيقتين.
أنت سوزي من فوق كرسيها المخملي الوردي، قائلة: «لا تفعلي ذلك يا عزيزتي إلين.» «ولكني يا أمي يمكنني أن فعل ذلك وأنا أرقص.» «قلت لك لا تفعلي ذلك.» انتقل إد تاتشر إلى عزف لحن «باركارول». كانت إلين ترقص على اللحن، مؤرجحة يديها معه، وممزقة الجريدة بقدميها الرشيقتين. «أرجوك يا إد احمل الطفلة؛ إنها تمزق الجريدة.»
أنزل أصابعه في نغمة متراخية. «يجب ألا تفعلي ذلك يا عزيزتي. فأنا لم أنته من قراءتها بعد.»
Unknown page
واصلت إلين ما تفعله. فانقض عليها تاتشر من فوق كرسي البيانو وأوقفها وهي تتلوى وتضحك فوق ركبته. «يجب أن تنتبهي دائما يا إلين عندما تتحدث أمك إليك، ويجب ألا تكوني مخربة يا عزيزتي. إن صناعة تلك الجريدة تكلف الكثير من المال، ويعمل فيها أشخاص كثيرون، وقد خرجت لشرائها ولم أنته من قراءتها بعد. إيلي تتفهم الموقف، أليست كذلك؟ نحن نريد بناء في هذا العالم وليس هدما.» ثم واصل عزف «الباركارول» وواصلت إلين الرقص، وكانت تخطو برقة بين الورود على الحقل المشمس المرسوم على السجادة. •••
جلس ستة رجال إلى الطاولة في المكان المخصص لتناول الطعام، وأخذوا يأكلون بسرعة وقبعاتهم على أقفيتهم.
صاح الشاب الجالس في طرف الطاولة، والذي كان يحمل صحيفة في يد وكوبا من القهوة في اليد الأخرى: «جيميني كريكيت! أيمكنك التغلب عليه؟»
قال رجل ذو وجه طويل وخلال أسنان على جانب فمه مدمدما: «أتغلب على ماذا؟» «يظهر ثعبان كبير في الجادة الخامسة ... صرخت السيدات وركضن في جميع الاتجاهات هذا الصباح في الساعة الحادية عشرة والنصف عندما زحف ثعبان كبير خارجا من صدع في بناء ذي جدار يدعم المستودع في الجادة الخامسة وشارع 42 وبدأ يعبر الرصيف ...» «يا لها من قصة مبالغ فيها ...»
قال رجل هرم: «ذلك شيء تافه. عندما كنت صبيا، كنا نذهب لاصطياد طيور الشنقب في بروكلين فلاتز ...»
همهم الشاب وهو يطوي جريدته ويهرع للخارج إلى شارع هدسون، الذي كان مليئا برجال وفتيات يسيرون بهمة في الصباح ذي المسحة القرمزية، قائلا: «يا إلهي! إنها التاسعة إلا الربع.» أحدث احتكاك حدوات أحصنة الجر ذات الحوافر المشعرة وسحق عجلات عربات البيع جلبة صامة للآذان وملأت الجو بغبار كثيف. كانت تنتظره عند باب إم سوليفان آند كو، مستودع ومخزن، فتاة ترتدي قلنسوة مزركشة بالورود، وقد علقت ربطة عنق فراشية خزامية اللون أسفل ذقنها المائل الرشيق. شعر الشاب بفوران يكتسحه من داخله، كزجاجة مياه غازية فتحت لتوها. «مرحبا إيميلي! ... لقد حصلت على ترقية.» «تكاد تتأخر بعض الشيء، أتعلم ذلك؟» «ولكن بحق، لقد حصلت على زيادة دولارين.»
أمالت ذقنها أولا على جانب ثم على الآخر. «لا أهتم.» «تعلمين ما عليك قوله إذا حصلت على ترقية.» نظرت مقهقهة في عينيه. «وما هذه سوى البداية ...» «ولكن بم تفيد 15 دولارا في الأسبوع؟» «عجبا، إنها 60 دولارا في الشهر، وأنا أتدرب على العمل في الاستيراد.» «أيها الأحمق، ستتأخر.» استدارت فجأة وركضت صاعدة الدرج المليء بالقمامة المبعثرة، وأصدرت تنورتها الجرسية الشكل ذات الثنيات صوت حفيف وهي تتحرك من جانب إلى آخر. «يا إلهي! إنني أكرهها. إنني أكرهها.» سالت دموع حارة في عينيه، ومشى بسرعة في شارع هدسون إلى مكتب وينكيل آند جوليك، مستوردون من غرب الهند.
كان سطح القارب بجوار الرافعة الأمامية دافئا ومبللا بالماء المالح. كانوا ممددين جنبا إلى جنب في قماش الدنيم المشحم يتحدثون خاملين في همس، وآذانهم تملؤها رغوة المياه المندفعة من شق المقدمة المستديرة للعبارة بقوة عبر الأمواج الرمادية المخضرة العالية لتيار الخليج.
بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «يمكنني أن أقول لك يا سيدي الهرم إن نيويورك تصيبني بالجنون ... في اللحظة التي نرسو فيها سأذهب إلى اليابسة وسأظل عليها. لقد سئمت حياة الكلاب هذه.» كان خادم المركب ذا شعر أشقر ووجه بيضوي سمني متورد، وسقط عقب سيجارة منطفئة من بين شفتيه عندما تحدث. قال بالفرنسية: «تبا!» بحث عنه حيث تدحرج على سطح القارب. لقد أفلت من يده وقفز في مصارف المياه.
قال الصبي الآخر الذي كان مستلقيا على بطنه راكلا زوجا من الأقدام المتسخة لأعلى في ضوء الشمس الخافت: «دعه. فلدي الكثير. سيرجعك القنصل إلى المركب.» «لن يمسك بي.» «وماذا عن خدمتك العسكرية؟» «فلتذهب مع المركب إلى الجحيم. ولتذهب معهما فرنسا كذلك.» «أتريد أن تصبح مواطنا أمريكيا؟» «لم لا؟ فللمرء الحق في اختيار بلده.»
Unknown page
مسح الآخر أنفه بقبضة يده مفكرا ثم زفر بصافرة طويلة. قال: «إنك لرجل حكيم يا إميل.» «ولكن يا كونغو، لم لا تأتي أنت أيضا؟ بالطبع لا تريد أن تمسح النفايات في مطبخ سفينة نتنة طوال حياتك.»
تقلب كونغو وجلس متربعا، وهو يحك رأسه الذي كان مليئا بالشعر الأسود المجعد . «أتعلم تكلفة قضاء ليلة مع امرأة في نيويورك؟» «لا أعلم، أظن أنها باهظة ... لن أذهب إلى اليابسة لإثارة الفوضى، بل سأحصل على وظيفة جيدة وأعمل. ألا تفكر في شيء سوى النساء؟»
قال كونغو وهو يستلقي على سطح السفينة مرة أخرى، دافنا وجهه الأسود الملطخ بالسخام بين ذراعيه المطويتين: «ما الفائدة؟ لم لا؟» «أريد أن أذهب إلى مكان آخر في العالم، ذلك ما أعنيه. فأوروبا قد فسدت وتعفنت. ولكن في أمريكا يمكن للمرء أن يتقدم. محل الميلاد لا يهم، التعليم لا يهم. الجميع يتقدم.» «ولكن لو كانت هناك امرأة شابة جذابة ولطيفة معنا الآن حيث سطح السفينة الدافئ، ألن ترغب في مداعبتها؟» «بعدما نصبح أغنياء، سنحظى بالكثير، الكثير من كل شيء.» «وهل ليس لديهم أي خدمة عسكرية؟» «لم عساهم أن تكون لديهم؟ إن المال هو ما يسعون وراءه. فهم لا يرغبون في قتال الناس، وإنما في التجارة معهم.»
لم يرد كونغو.
استلقى خادم المركب على ظهره ناظرا إلى السحب. لقد تدفقت من الغرب في صروح متراكمة ضخمة يسطع ضوء الشمس من بينها، مشرقة وبيضاء كرقائق القصدير. كان يمشي عبر شوارع ذات مبان بيضاء وطويلة وفوق بعضها، متبخترا في سترة مشقوقة الذيل وياقة بيضاء طويلة، ثم صعد فوق درج من القصدير، عريض، وممسوح ونظيف، عبر بوابات زرقاء، دلف إلى داخل قاعات من الرخام المخطط حيث صوت حفيف وخشخشة نقود من أوراق، وفضة، وذهب على طاولات قصديرية طويلة.
بالفرنسية: «تبا لقد حان الوقت.» وصل إلى آذانهما خافتا صوت ضربات الجرس المزدوجة في عش المراقبة. «ولكن لا تنس يا كونغو أنه في الليلة الأولى التي وصلنا فيها اليابسة ...» ثم طقطق بشفتيه. «لقد رحلنا.» «كنت نائما. وحلمت بفتاة شقراء شابة. كنت سأحظى بها لولا أن أيقظتني.» نهض خادم السفينة على قدميه ناعرا، ووقف لبرهة ناظرا جهة الغرب حيث تنتهي الأمواج في خط متعرج حاد أمام سماء صلبة ومباغتة كالنيكل. ثم دفع بوجه كونغو لأسفل أمام سطح السفينة وركض إلى مؤخرتها، خافقة قدماه في قبقابه الخشبي وهو يمضي. •••
بالخارج، كان أحد أيام السبت الحارة من شهر يونيو يجرجر أشلاءه في شارع 110. استلقت سوزي تاتشر مضطربة في السرير، ويداها مبسوطتان في زرقة ونحول فوق غطاء السرير أمامها. تراءت إليها أصوات عبر جدار الغرفة الرفيع. كانت فتاة شابة تصيح بصوت به خنف: «قلت لك يا أمي لن أعود إليه.»
ثم أدركت صوتا رصينا لامرأة يهودية عجوز تجادل قائلة: «ولكن الحياة الزوجية يا روزي ليست كلها متعة ومرحا. يجب على الزوجة أن تطيع زوجها وأن تعمل على راحته.» «لن أفعل ذلك. لا يمكنني التحمل. لن أعود لذلك الحيوان القذر.»
اعتدلت سوزي في سريرها، ولكنها لم تستطع سماع ما قالته المرأة العجوز بعد ذلك.
صرخت الفتاة فجأة: «ولكنني لم أعد يهودية. هذه ليست روسيا، إنها نيويورك الودود. وللفتيات حقوق هنا.» ثم صفع باب وساد الصمت.
Unknown page
تقلبت سوزي تاتشر في السرير تئن مضطربة. أولئك الأشخاص البغيضون لا يمنحونني لحظة هدوء. أتت من الأسفل صلصلة صندوق موسيقى بموسيقى أوبريت «الأرملة الطروب». يا إلهي! لم لم يرجع إد إلى المنزل؟ إنه لمن القسوة أن يتركوا امرأة مريضة وحدها هكذا. يا لها من أنانية! لوت فمها لأعلى وأجهشت بالبكاء. ثم استلقت هادئة مرة أخرى، محدقة في السقف تشاهد الذباب وهو يطن طنينه المستفز حول مصباح الإنارة الكهربائية. أحدثت عربة في الشارع صوت جلبة. كان بإمكانها سماع أصوات صياح الأطفال. ومر فتى يصيح بصدور طبعة ثانية لإحدى الصحف. ماذا لو نشب حريق؟ كذلك الحريق المروع في مسرح شيكاغو. أوه، سيصيبني الجنون! تقلبت في السرير، وأظافرها المدببة تغرز في راحتي يديها. سأتناول قرصا آخر. ربما أستطيع أن أحظى ببعض النوم. رفعت نفسها مستندة إلى مرفقها وتناولت القرص الأخير من علبة معدنية صغيرة. كانت جرعة الماء التي تبلع بها القرص تسكن حلقها. أغلقت عينيها واستلقت في هدوء.
نهضت مجفلة. كانت إلين تقفز في أنحاء الغرفة، وكانت قبعتها الخضراء تسقط من مؤخرة رأسها، وكانت تجعدات شعرها النحاسية اللون تندفع في جموح. «أوه يا أمي، أريد أن أكون فتى .» «اهدئي يا عزيزتي. فأمك تشعر بالتعب بعض الشيء.» «أريد أن أكون فتى.» «عجبا يا إد، ماذا فعلت للفتاة؟ إنها منزعجة للغاية.» «إننا لسنا سوى متحمسين سوزي. فقد كنا نشاهد المسرحية الأروع على الإطلاق. لقد أحببناها كثيرا، إنها شديدة الشاعرية وكل تلك الأشياء البديعة. وقد كانت مود آدامز رائعة. أحبت إيلي كل دقيقة فيها.» «يبدو من السخف، كما سبق وقلت، أن تأخذ طفلة صغيرة ...» «أوه يا أبي، أريد أن أكون فتى.» «إنني أحب فتاتي الصغيرة كما هي. يجب أن نذهب مرة أخرى يا سوزي ونصطحبك معنا.» «أنت تعلم جيدا يا إد أنني لن أكون على ما يرام.» اعتدلت جافلة في جلستها، وشعرها يتدلى أصفر باهتا ومستقيما أسفل ظهرها. «أوه، ليتني أموت ... ليتني أموت ولا أكون عبئا عليكما أكثر من ذلك ... أنتما تكرهاني. إن لم تكونا تكرهاني لم تركتماني وحدي هكذا؟» أصيبت بغصة ووضعت وجهها بين راحتيها. شبكت بين أصابعها، وقالت: «أوه، ليتني أموت.» «أرجوك يا سوزي، من السيئ أن تقولي ذلك.» وضع ذراعه حولها وجلس على السرير بجوارها.
بكت بهدوء وأسقطت رأسها فوق كتفه. وقفت إلين محدقة فيهما بعينيها الرماديتين المستديرتين. ثم استأنفت القفز هنا وهناك، مغنية لنفسها: «إيلي ستصبح فتى، إيلي ستصبح فتى.» •••
بخطوات بطيئة وطويلة، وعرجة بسيطة في قدميه المتقرحتين، مشى بود في شارع برودواي، مارا بأراض فارغة حيث كانت العلب المعدنية تومض وسط العشب وشجيرات السماق والرجيد، وبين صفوف لوحات الإعلانات ولافتات سجائر بول دورهام، ومارا بأكواخ وعشش سكنية مهجورة، وبأودية عميقة ضيقة متراكمة بكومات من القمامة المحمولة على العجلات حيث تلقي عربات القمامة بالرماد والآجر، وبكتل من الصخور الرمادية حيث حفارات البخار الطارقة والقاضمة بلا انقطاع، وبأنقاب تشق طريقها بصعوبة عبرها عربات مليئة بالصخور والطمي على ممرات من ألواح إلى الشارع، حتى وجد نفسه يمشي على أرصفة جديدة بمحاذاة صف من المنازل ذات شقق مبنية بالطوب الأصفر، ونظر إلى نوافذ متاجر البقالة، حيث المغاسل الصينية، والمطاعم السريعة، ومتاجر الزهور والخضراوات، والخياطون، ومتاجر الأطعمة المستوردة والجاهزة. بمروره أسفل سقالة أمام مبنى جديد، التقت عيناه بعيني رجل هرم كان يجلس على حافة الرصيف يعتني بمصابيح زيتية. وقف بود بجواره، رافعا بنطاله، وتنحنح ثم قال: «ألا أخبرتني يا سيدي أين يجد المرء مكانا جيدا ليبحث فيه عن عمل؟» «لا يوجد مكان جيد للبحث عن عمل أيها الشاب ... هناك أعمال لا بأس بها ... سأتم عامي الخامس والستين بعد شهر وأربعة أيام، وقد كنت أعمل منذ أن كنت في الخامسة حسب تقديري، ولم أجد عملا جيدا بعد.» «يمكنني العمل في أي شيء.» «هل لديك بطاقة نقابة؟» «ليس لدي شيء.»
قال الرجل الهرم: «لا يمكنك الحصول على عمل في البناء دون أن يكون معك بطاقة نقابة.» حك شعيرات ذقنه الرمادية بظهر يده ومال فوق المصابيح مرة أخرى. وقف بود محدقا في غابة من عوارض المباني الجديدة يفوح منها الغبار حتى لمح عيني رجل يرتدي قبعة دربية عبر نافذة مأوى لحارس. مسح نعله في اضطراب ودخل. لو كان بإمكاني أن أمضي قدما إلى مركز كل شيء ...
عند الناصية التالية، كان ثمة حشد مجتمع حول سيارة بيضاء عالية. تدفقت سحب من البخار من طرفها الخلفي. وكان هناك رجل شرطة يرفع عاليا فتى صغيرا من إبطيه. خرج من السيارة رجل أحمر الوجه ذو شارب أبيض كثيف يمشي غاضبا. «قلت لك أيها الضابط إنه رمى حجرا ... يجب أن تتوقف مثل هذه الأشياء. لأن معاونة ضابط للأشرار والمشاغبين ...»
كانت هناك امرأة ذات شعر مرفوع في ربطة ضيقة أعلى رأسها، وكانت تهز قبضتها أمام الرجل في السيارة، وتصرخ قائلة: «كاد يدهسني أيها الضابط، كاد يدهسني.»
شق بود طريقه بجوار شاب يرتدي مئزر جزار وقبعة بيسبول بالمقلوب. «ما الأمر؟» «تبا، لا أعلم ... أظنه شجارا من تلك المشاجرات التي يحدثها راكبو السيارات. ألا تقرأ الصحف؟ لا لوم عليهم، ألا توافقني؟ بأي حق تنطلق تلك السيارات اللعينة في أرجاء المدينة مكتسحة النساء والأطفال؟» «يا للهول، أيفعلون ذلك؟» «بالطبع يفعلون ذلك.» «اسمع ... امم ... أيمكنك يا سيدي أن تخبرني بمكان جيد أبحث فيه عن عمل؟» أرجع صبي الجزار رأسه للوراء وضحك. «يا إلهي، لقد ظننت أنك ستطلب صدقة ... أظنك لست من نيويورك ... سأخبرك بما عليك فعله. ستستمر في السير في برودواي حتى تصل إلى دار البلدية ...» «هل مركز كل شيء هناك؟» «بالطبع ... ثم ستصعد الدرج وتسأل عن الحاكم ... لقد سمعت أن هناك بعض المقاعد الشاغرة في مجلس البلدية ...»
دمدم بود، وهو يمشي مسرعا: «اللعنة، بالطبع لديهم مقاعد فارغة.» ••• «تدحرجي يا عزيزتي ... تدحرجي يا أحجار النرد اللعينة.» «أنت تعرف لغتها يا سلاتس.» «هيا، فليأت الرقم سبعة!» ألقى سلاتس بالنرد من يده مطقطقا، وإبهامه في محاذاة أصابعه المتعرقة. «مرحى.» «أشهد لك بأنك لاعب محترف يا سلاتس.»
وضع كل منهم بيده المتسخة نيكلا على كومة النقود التي تتوسط دائرة من ركبهم المرقعة الملتصقة كل منها في الأخرى من الأمام. كان الفتيان الخمسة يجلسون على أعقابهم أسفل مصباح في شارع ساوث ستريت. «هيا يا فتياتي، إننا ننتظر ... تدحرجي أيتها الأحجار الصغيرة الملعونة، تبا، هيا، تدحرجي.» «توقفوا يا رجال! هذا بيج ليونارد وعصابته يتوجهون ناحية المربع السكني.» «سأبرحه ضربا ل ...»
Unknown page
كان أربعة منهم يمشون بتراخ بمحاذاة الرصيف، وينتشرون تدريجيا دون أن يلتفتوا خلفهم. أما الفتى الأصغر ذو الوجه الصغير الذقن كالمنقار، فقد ظل في الخلف في هدوء مجمعا العملات المعدنية. ثم ركض بمحاذاة الجدار وتلاشى في الممر المظلم بين منزلين. بسط جسمه خلف مدخنة وانتظر. اقتحمت الأصوات المختلطة للعصابة الممر، ثم واصلوا السير في الشارع. كان الفتى يعد النيكلات في يده. عشرة. «يا إلهي، إنها 50 سنتا ... سأخبرهم أن بيج ليونارد قد رفع العجين.» لم يكن لجيوبه بطانة؛ فلف النيكلات في أحد أطراف قميصه. •••
امتزج قدح من نبيذ الراين وكأس من الشامبانيا في كل مكان بمحاذاة الطاولة البيضوية البيضاء البراقة. وفي ثمانية أطباق بيضاء لامعة، قدمت ثماني قطع من كانابي الكافيار فيما يشبه حلقات من الخرز الأسود على أوراق الخس، وأحاطت بها تقسيمات من الليمون المنثور مع شرائح رفيعة من البصل وبياض البيض. قال النادل الهرم بمزيج من الفرنسية والإنجليزية وهو يجعد جبهته المتعرجة: «بكثير من العناية، ولا تنس.» كان رجلا قصيرا متمايلا في مشيته وله بعض شعيرات سوداء لصقها بإحكام على رأسه المقبب. «حسنا.» أومأ إميل برأسه بجدية. كانت ياقته ضيقة عليه للغاية. وكان يرج زجاجة أخيرة من الشامبانيا في دلو الثلج المحاط بالنيكل على طاولة التقديم.
بمزيج من الفرنسية والإيطالية والإنجليزية: «بكثير من العناية، اللعنة ... هذا الرجل يلقي بالمال كقصاصات ورق، انظر ... إنه يعطي بقشيشا، انظر. إنه رجل فاحش الثراء. إنه لا يهتم كم أنفق من المال.» ربت إميل على ثنية مفرش المائدة لتسويته. بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «لا تفعل ذلك ... يداك متسختان، قد تترك أثرا.»
متكئين في البداية على قدم واحدة، ثم على الأخرى، وقفوا منتظرين والمناشف أسفل آباطهم. من المطعم بالأسفل وسط روائح الطعام المطهو بالزبد، وصلصلة السكاكين والشوك والأطباق، أتى الصوت الخفيض بموسيقى رقصة فالس.
عندما رأى إميل رئيس النادل ينحني خارج الباب، ضغط شفتاه في ابتسامة مطيعة. كانت هناك امرأة شقراء مسنة ترتدي عباءة أوبرا سلمونية اللون تهفهف على ذراع رجل مستدير الوجه كان يحمل قبعته العالية أمامه كمصد، وفتاة صغيرة مجعدة الشعر ترتدي رداء أزرق تظهر أسنانها وتضحك، وامرأة سمينة ترتدي تاجا وشريطا مخمليا أسود حول عنقها وذات أنف منقاري ووجه بلون السيجار ... صدور قمصان زائفة، وأياد تسوي ربطات عنق بيضاء، وومضات بريق سوداء أعلى قبعات وأحذية جلدية لامعة، وثمة رجل خبيث بأسنان ذهبية ظل يلوح بذراعيه متلفظا بتحيات بصوت كصوت بقرة، وقد وضع قطعة من الألماس بحجم عملة نيكل في صدر قميصه الزائف. كانت الفتاة الصهباء في غرفة المعاطف تجمع الأردية. دفع النادل الهرم إميل. قال عاوجا فمه وهو ينحني: «إنه الزعيم الكبير.» بسط إميل جسمه على الجدار وهم يدخلون الغرفة ويخرجون منها مصدرين جلبة. وجد أنفه نفحة من نبات الباتشولي، عندما التقط أنفاسه باغتته بحرارة وصلت إلى جذور شعره.
صاح الرجل المزين بالألماس: «ولكن أين فيفي ووترز؟» «قالت إنها ستتأخر نصف ساعة. أظن أن الرجال لن يدعوها تمر من باب المسرح .» «حسنا، لا يمكننا انتظارها حتى وإن كان هذا عيد ميلادها؛ فأنا لم أنتظر أحدا في حياتي.» وقف لبرهة مقلبا عينه الشاردة في النساء حول الطاولة، ثم أخرج سواري كميه قليلا من سترته ذات الذيل، وجلس بغتة. نسف الكافيار في غمضة عين. نعق بصوت أجش: «وماذا عن كأس نبيذ الراين العريضة أيها النادل؟» حبس إميل أنفاسه وامتص وجنتيه إلى الداخل أثناء لمه للأطباق، وقال بالفرنسية: «حالا يا سيدي ...» تكون الصقيع على الأقداح عندما صب النادل الهرم النبيذ في الكأس العريضة من إبريق زجاجي مزخرف يطفو فيه النعناع، والثلج، وقشر الليمون، وشرائح رفيعة طويلة من الخيار. «أها، هذا سيفي بالغرض.» رفع الرجل المرصع ثيابه بالألماس كأسه إلى شفتيه، وشرب منها ثم أنزلها وهو يلقي نظرة جانبية على السيدة بجواره. كانت تربت بالزبد على لقيمات من الخبز وتلقي بها في فمها، مغمغمة أثناء ذلك: «لا يمكنني أن آكل سوى أصغر الوجبات الخفيفة، أصغر الوجبات الخفيفة فحسب.» «ذلك لا يمنعك من تناول الشراب يا ماري، أليس كذلك؟»
أطلقت ضحكة مقهقهة وضربت على كتفه بمروحتها المطوية. «يا إلهي، يا لك من مخادع!»
هسهس النادل الهرم بمزيج من الإيطالية والفرنسية في أذن إميل: «اللعنة، فلتضئ لي.»
عندما أضاء المصابيح أسفل صحني التسخين والضيافة المعدنيين على طاولة التقديم، بدأت رائحة الشيري الساخن، والقشدة، والكركند تفوح في الغرفة. كان الهواء ساخنا، ومليئا بالطنين، والعطر، والدخان. بعد أن عاون إميل في تقديم الكركند على طريقة نيوبرج وأعاد ملء الكئوس، اتكأ على الحائط، ومرر يده فوق شعره الرطب. انزلق نظره تجاه كتفين لحميين لامرأة أمامه، ثم نزل على ظهرها الأملس حيث ظهر مشبك فضي صغير غير مقفول أسفل زركشة الدانتيل. لف الرجل الأصلع الرأس الجالس بجوارها ساقه حول ساقها. كانت شابة، في عمر إميل، وظلت تنظر لأعلى في وجه الرجل بشفتين مفتوحتين ورطبتين. جعل هذا إميل يشعر بالدوار، ولكنه لم يستطع التوقف عن النظر.
قال الرجل ذو الألماسة مصدرا صريرا عبر فمه الممتلئ بالكركند: «ولكن ما الذي حدث لفيفي الجميلة ؟» وتابع: «أظن أنها حققت نجاحا مرة أخرى هذا المساء مما جعل سهرتنا المتواضعة لا تروق لها.» «إن الأمر من شأنه أن يجعل أي فتاة مترفعة.»
Unknown page
قال الرجل ذو الألماسة ضاحكا: «حسنا، ستتفاجأ مفاجأة عمرها الصغير إن توقعت أننا سننتظرها. ها، ها، ها. أنا لم أنتظر أحدا في حياتي، ولن أنتظر أحدا الآن.»
دفع الرجل ذو الوجه المستدير بطبقه على الطاولة وكان يلعب بالسوار في معصم السيدة الجالسة بجواره. «أنت الليلة يا أولجا تماما في جاذبية فتيات لوحات جيبسون.»
قالت رافعة قدحها أمام الضوء: «ها أنا أجلس جلسة فتاة تستعد أن ترسم الآن.» «أعلى يد جيبسون؟» «لا، بل على يد رسام حقيقي.» «أقسم أنني سأشتري تلك اللوحة.» «ربما لن تتسنى لك الفرصة.»
أومأت له برأسها ذي الشعر الأشقر المصفف بتسريحة بومبادور. «إنك لمشاكسة صغيرة وماكرة يا أولجا.»
ضحكت مبقية شفتيها محكمتين فوق أسنانها الطويلة.
كان رجل يميل في اتجاه الرجل ذي الألماسة، ناقرا بإصبع قصير وبدين على الطاولة. «كلا يا سيدي، كمقترح عقاري، فإن شارع 23 قد انهار ... وقد اعترف الجميع بذلك ... ولكن ما أريد أن أحدثك عنه في سرية بعض الوقت يا سيد جودالمينج، هو هذا ... كيف تجنى جميع الأموال الطائلة في نيويورك؟ عائلات أستور، وفاندربيلت، وفيش ... في مجال العقارات بالطبع. إن الفرصة أصبحت مواتية أمامنا الآن لتحقيق ربح كبير ... نكاد نصل ... فلنشتر في شارع 40 ...»
رفع الرجل ذو الألماسة حاجبا وهز رأسه. «لقضاء ليلة في أحضان الجمال، أوه ضع الهموم جانبا ... أو شيء من هذا القبيل ... اللعنة أيها النادل، لم تأخرت الشامبانيا؟» نهض وسعل في يده، ثم بدأ في الغناء بصوته الناعق:
أوه لو كان الأطلسي محيطا من الشامبانيا
أمواجا براقة من الشامبانيا.
صفق الجميع. كان النادل الهرم قد قسم لتوه كعكة ألاسكا، بوجه متورد كالبنجر، وكان ينزع فلينة شامبانيا جامدة. عندما فرقعت الفلينة، أطلقت السيدة ذات التاج صرخة. شربوا نخب الرجل ذي الألماسة.
Unknown page
نخب كونه رجلا جيدا وبهيجا ...
مال الرجل ذو الأنف المنقاري وسأل الفتاة الجالسة بجانبه: «ماذا تطلقون على هذا الطبق؟» كان شعرها الأسود مفروقا من المنتصف، وكانت ترتدي فستانا أخضر باهتا بكمين منتفخين. غمز ببطء ثم حدق بشدة في عينيها السوداوين. «هذا أفخم طعام وضعته يوما في فمي ... أتعلمين أيتها الشابة، إنني لا آتي كثيرا إلى هذه المدينة ... (ابتلع صبابة كأسه). وعندما آتي إلى هنا، فإنني أشعر عادة بالاشمئزاز بعض الشيء عندما أغادر ...» تفحصت نظرته البراقة والمحمومة من أثر الشامبانيا معالم عنقها وكتفيها، وتجولت للأسفل إلى ذراعها العاري. «ولكني أظن بعض الشيء هذه المرة ...»
قاطعته بوجه متورد: «لا بد أن في هذا آفاقا لحياة عظيمة.» «كانت حياة عظيمة في الأيام الخوالي، كانت حياة صعبة ولكنها كانت حياة الرجال ... أنا سعيد أنني جنيت ثروتي في تلك الأيام ... فما كنت لأحصل على الحظ نفسه الآن.»
نظرت إليه. «يا لك من متواضع في تسميته حظا!»
كان إميل يقف خارج باب الغرفة الخاصة. لم يعد هناك ما يقدم. مرت به الفتاة الصهباء من غرفة المعاطف وفي ذراعها معطف كبير متهدب بقبعة. ابتسم محاولا جذب انتباهها. فتنشقت ورفعت أنفها في الهواء. لن تنظر إلي لأنني نادل. سأريهم عندما أجني بعض المال.
أتى النادل الهرم هامسا في أذنه: «اطلب من تشارلي زجاجتي مويت وشاندون أخريين، من الزجاجات ذات المذاق الأمريكي.»
كان الرجل ذو الوجه المستدير واقفا. «السيدات والسادة ...»
ارتفع صوت مزمر: «الصمت في حظيرة الخنازير ...»
قالت أولجا بصوت شديد الهدوء: «الخنزير الكبير يريد أن يتحدث.» «السيدات والسادة، نظرا للغياب المؤسف لنجمتنا نجمة مدينة بيثيلهم والممثلة المتفرغة ...»
قالت السيدة ذات التاج: «لا تسب يا جيلي.» «السيدات والسادة، لست معتادا على ...» «أنت ثمل يا جيلي.» «... أيا كان اتجاه المد ... أعني سواء أسارت الرياح في اتجاهنا أم في عكسه ...»
Unknown page