بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: تحت راية القرآن (المعركة بين القديم والجديد)
مقالات الأدب العربي في الجامعة، والرد على كتاب " في الشعر الجاهلي " للدكتور طه حسين، وإسقاط البدعة الجديدة التي يريد دعاتها تجديد الدين.
اللغة والشمس والقمر.
المؤلف: مصطفى صادق الرافعي
الناشر: المكتبة العصرية - صيدا - بيروت
الطبعة الأولى - ١٤٢٣ هـ - ٢٠٠٢ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
بعد الصلاة والسلام على أشرف خلق الله تعالى - محمد النبي الأمي وعلى آله ِوأصحابه أجمعين، لقد اعتاد القارئ العربي الكريم الاطلاع على كل جديد التراث الإسلامي والعربي من إصدارات المكتبة العصرية للطباعة والنشر والتوزيع، وها هي الدار اليوم تقدّم للقارئ العربي "تحت راية القرآن" لأحد رجال الفكر الإسلامي العربي الأديب مصطفى صادق الرافعي ﵀ بحلة جديدة، آملة أن ترضي القارئ الكريم، عله أن يجد ضالته فيما تركه الأديب من مادة، نحن بأمس الحاجة إليها في زمننا هذا. والأديب ينسج خطوط قصصه بريشة شاعر فنَّان، يحقق في عالم الشعر، مصبوغة بوجدان الإيمان العميق، تبغي العدالة، ونشر قيم الإسلام الحنيف ببساطتها وروعتها، وأبطالها يمثلون الفضيلة بجلالها وأصالتها الإسلامية، والحبُّ السامي بخيوطه المحبوكة من قلوب أبطاله الملائكيين في ميولهم
وطهارتهم وسمو نفوسهم.
وبما أن مصطفى صادق الرافعي شاعر مثقف ثقافة شعرية، يمتاز بحسٍّ
مرهف، كان لا بدَّ له من ممارسة عملية النقد الفني الرفيع بتجرد يمزجه بحماس وإعجاب وحبٍّ لمعاصريه من لدن البارودي، مرورًا بأحمد شوقي وحافظ إبراهيم.
وبالاختصار يمكن اعتبار الرافعي في هدا المجال مؤرخًا للأدب - المصري في
مطلع القرن العشرين، بحيث لا يمكن الاشتغناء عقا يقدمه من آراء ومعلومات قيمة
عن الحركة الأدبية في الشعر والنثر في عصره.
المؤلف في سطور
هو مصظفى صادق بن عبد الرزاق بن سعيد بن أحمد بن عبد القادر الرافعي:
عالم بالأدب، شاعر، من كبار الكتاب.
أصله من طرابليس الشام، ومولده في بهتيم (بمنزل والد أمه) ووفاته في
طنطا (بمصر) أصيب بصمم فكان يُكتب له ما يراد مخاطبته به.
1 / 3
شعره نقي الديباجة، على جفاف في أكثره. ونثره من الطراز الأول.
مؤلفات الرافعى
- ديوان شعر، ثلاثة أجزاء.
- تاريخ آداب العرب، جزآن.
- إعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
- تحت راية القرآن.
- رسائل الأحزان.
- على السفود، رد فيه علىْ عباس محمود العقاب.
- ديوان النظرات.
- السحاب الأحمر في فلسفة الحب والجمال.
- حديث القمر.
- المعركة، رد فيه علي الدكتور طه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي ".
- المساكين.
- أوراق الورد.
- وحي القلم، ثلاثة أجزاء.
دراسات حول المؤلف وتراثه "
- حياة الرإفعي ة محمد سعيد العريان.
- رسائل الرافعي: محمود أبو رية.
وانظر ترجمته في
- المنتخب من أدب العرب ١: ٥٥.
- تراجم علماء طرابلس ٢١١، في آخر ترجمة عمه عبد الحميد بن سعيد الرافعي.
- معجم المطبوعات "٢٦.
- الأعلام: ٧: ٢٣٥.
- المقتطف ٧٣: ٣٥٢.
- مجلة الرابطة العربية، ١٨ ربيع الأول سنة ١٣٥٧ هـ.
الناشر.
1 / 4
تنبيه
نلفت القراء إلى أننا في هذا الكتاب إنما نعمل على إسقاط
فكرة خطيرة، وإذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه فقد تكون غدًا
في من لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء، لا
جهلُنا من نجهله يلطف منه، ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه.
والفكرة لا تسمى بأسماء الناس، وقد تكون لألف سنة خلَت
ثم تعود بعد ألف سنة تأتي، فما توصف من بعد إلا كما وُصفت
من قبل ما دام موقعها في النفس لم يتغير، ولا نظنه سيأتي يوم
يُذكر فيه إبليس فيقال: ﵁.
ونحن مستيقنون أن ليس في جدال من نجادلهم عائدة على
أنفسهم، إذ هم لا يضلون إلا بعلم وعلى بينة! فمن ثم نزعنا في
أسلوب الكتاب إلى مَنحى بياني نديره على سياسة من الكلام
بعينها، فإن كان فيه من الشدة أو العنف أو القول المؤلم أو
التهكم، فما ذلك أردنا، ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع
المهتدي أن يضل، فما به زَجر الأول بل عظة الثاني، ولهذا في
مناحي البيان أسلوب ولذلك أسلوب غيره، ألا وإن أقبح من القبح
ما جهله يسمى قبحًا، وان أحسن من الحسن ما جهله حسنًا، ولكل
معنى باعتباره موضع، ولكل موضع في حقه وصف ولكل وصف
في غرضه تعبير، ولكل تعبير أسلوبه وطريقته، فهذا ما ننبه إليه.
ولو كان أصحابنا غير مَن هم في الأثر والمنزلة لكان أسلوبنا
غير ما هو في النمط والعبارة، والسلام.
الرافعي
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على رسله وأَنبياء
بين يدي الكتاب
اللهم هيئ لنا الخير، واعزم لنا على الرشد، وآتنا من لدُنكَ رحمة.
واكتب لنا السلامة في الرأي، وجنبنا فتنةَ الشيطان أن يقوى بها فنضعف، أو
نضعفَ لها فيقوى، ولا تدعنا من كوكب هداية منك في كل ظلمة شك منا.
واعصمنا أن تكون آراؤنا في الحق البين مكان الليل من نهاره، أو تنزل ظنوننا
من اليقين النيِّر منزلة الدخان من ناره، نسألك بوجهك، ونتوسل إليك بحمدك وندعوك بأفئدة عرفتك حين كذب غيرها فأقرَّت، وآمنت بك فزُلزل غيرها واستقرت.
وأما بعدُ، فإني قد نظرت فإذا كل ما كنتُ أريد أن أقوله في هذه الكلمة
قد كتبتُه في هذه المقالات، فهي لا تدع مسألة ولا تترك شبهة ولا تزال تأخذ
بيد القارئ فتضعها على غلطات أصحابنا المجددين، بل المبددين، واحدة بعد
واحدة، وشيئًا بعد شيء، فهو منها في برهان لائح من حيث بدًا إلى حيث
ينتهي، كالنجم لا يزال بعين منه أين مشى وكيف تلفت.
وما رأيت فئة يأكل الدليل الواحد أدلتها جميعًا كهؤلاء المجددين في
العربية، فهم عند أنفسهم كالجمرة المتوقدة، لا يُشبعها حطبُ الدنيا ولكن غرفة من الماء تأكل الجمرة، وهم مخذولون بقوة الله، إذ ليس فيهم رجل فصيح بليغ يكون لهم كالتعبير من الطبيعة عن هذا المذهب، حتى يثبت مذهبهم فلا يُدفع ويقوم فلا يُنقص، ولن يأتي لهم هذا الرجل، فلو أَنه اتفق لهم لكان أشد أعدائهم، ولأغلظ فيهم النكاية، فما زال ينقصهم أبدًا ولن يتموا به أبدًا، وذلك من عجيب تقدير الله في العربية، لمكان القرآن منها، حتى لا يدخل في طمع أحد ولا تناله يد متناول، فهو محفوظ بالقدَر كما ترى، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢١) .
وإن طائفة من الذباب لو أصابت حاميًا مدافعًا من النسور فجاءت تطنُّ
بأجنحتها لتلوذ به وتنضويَ إليه، ثم قصفَ النسر قصفة بجناحيه لأهلكها أو
1 / 7
بعثرها وشردها، وهو كان في وهمها مَلاذًا وكان عندها حمَى فذلك مثل القوم
وما يحتاجون إليه من الرجل البليغ إذا التمسوه فاصابوه!
* * *
أما إنه ليس يقوم العقل ما يسمى عقلًا، ولكن على ما يسمى غرضًا
وحاجة ورغبة واضطرارًا، فأهواء امرئ من الناس جاعلة له عقلًا غير عقل من لم تدعه نفسه إلى مثل هذه الأهواء، وإن كان أمرهما واحدًا بعد.
ومن هنا اختلافنا معْ هؤلاء المجددين، فإن لهم أغراضًا لا مناص أن تجعل لهم عقولًا بحَسبها وعلى مقاديرها في المصلحة والمفسَدة، وهم صُور من ضمائرهم،فليس - في الملحد يكون ضمير مؤمن، ولا في الفاجر ضمير تقي، ولا في المستهتر ضمير ورع، ومن ثم وجب أن تتحذرهم الأمة وأن تقرهم في ذلك الحيز من تخيلاتهم وأوهامهم، فهم من الأمة إذا غلبت هي عليهم وليسوا منها إذا غلبوا عليها، وما مَثلُهم إلا كالرمل والحصى، تكون في مجرى الماء العذب فتكون شيئًا من طبيعته وتحدث فيه لونًا من الحسن والرونق، وإذا هي خيال من شعر النهر، حتى إذا خرجت مع الماء وانساغت في حلق من يجرعه كانت بلاء وأذى وانقلبت للماء سُبة ورُمي بها ورميت به!
وهم يريدون بآرائهم الأمة ومصالحها ومراشدها، ويقولون في ذلك بما
يسعه طغيانهم على القول واتساعهم في الكلام واقتدارهم على الثرثرة، حتى إذا فتشتَ وحققت لم تجد في أقوالهم إلا ذواتهم وأغراضهم وأهواءهم يريدون أن يبتلوا بها الناس في دينهم وأخلاقهم ولغتهم، كالمسلول يصافحك ليُبلغك تحيته وسلامه فلا يبلغك إلا مرضه وأسباب موته!
ولقد كان من أشدهم عُرامًا وشراسة وحمقًا هذا الدكتور "طه حسين"
أستاذ الآداب العربية في الجامعة المصرية، فكانت دروسه الأولى "في الشعر
الجاهلي" كفرًا بالله وسخرية بالناس، فكذب الأديان وسفه التواريخْ "وكثر غلطه وجهله، فلم تكن في الطبيعة توة تعينه على حمل كل ذلك والقيام به إلا
المكابرة واللجاجة، فمرَّ يهذي في دروسه، ولا هو يثبت الحقيقة الخيالية ولا
يترك الحقيقة الثابتة، وأراد أن يسلب أهل العلم ما يعلمونه كما يسلبك اللص ما تملك بالجرأة لا بالحق وبالحيلة لا بالإقناع، وعن غفلة لا عن بينة. وما يضحكني إلا أن أرى هذا الأستاذ واثنين أو ثلاثة من أشباهه يريدون أن يكونوا ثورة في الأدب العربي، ونسوا أنهم إنما يريدون ذلك لأنهم خُلقوا لذلك، فكان "طه" في الجامعة كالممثل، إنما وسيلته أن يتصنع ويجترئ ويزور.
فلما نزعنا
1 / 8
عنه ثوب الرواية، نزعنا في الثوب الحادثة والرواية والممثل جميعًا، ورجع طه
حسين وهو طه حسين. وأين هو أو مثله من وسائل القدرة، وما وسائلها إلا
القلم الذي لا يجارى، والفكر الذي لا يُنقض، والخيال الذي لا يُلحق، والقوة المستحصدة، والطبع المستجيب، والكلام الذي تراه حيًا. ساميًا فتحسبه ينبع من موضع يد الله في النفس الإنسانية.
على أن أستاذ الجامعة إنما يقلد الهدامين من جبابرة العقول في أوروبا.
وإنه منهم ولكن كما تكون هذه الكرة الجغرافية، المدرسية التي تصور عليها
القاراتُ الخمس - من كرة الأرض التي تحمل القارات الخمس. . . ولأيسرُ
عليه أن يملك أوروبا أو أمريكا من أن يملك عقلًا كتلك العقول التي يحاول
مثل عملها في غير هندستها ولا حكمتها ولا سموها ولا معانيها؛ وظنك أنت
قد غرستَ في جناح غراب ريشة من الطاووس لتكون زرعًا يُنبت الريش من مثله فينقلب الغراب من ذلك يومًا يزدهي ويتخايل وَيبرُق ويرف بألوانه وتحاسينه، فإنه لينقلب طاووسًا قبل أن تعد طه حسين عبقريا فيلسوفًا..! فالرجل متخلِّف الذهن تستعجم عليه الأساليب الدقيقة ومعانيها وأكبر ما معه أنه يتحذلَقُ ويتداهى ويتشبه بالمفكرين ولكن في ثوب الرواية. . .!
هو وأمثاله المجددون يسمَّون كتَّابًا وعلماء وأدباء، إذ كان لا بد لهم من
نعت وسِمة فى طبقات الأمة، غير أنهم على التحقيق غلطات إنسانية تخرجها
الأقدار في شكْل علمي أو أدبي لتعارض بها صوابًا كاد يهمله الناس، فيخشى
الناس أن يتحئفَ الخطأ صوابهم أو يذهب به، فيستمسكون بحبله ويشدون
عليه، ويعود ذلك الصواب بعد ظهور الخطأ الذي يقابله ووقوفِه بإزائه موقف العدو من العدو، كأنما ظهر دليلُه لا نقيضه، فيعرف الناس وجه الحاجة إليه، ومكان الغناء فيه، وضرورة المنفعة به، وكان وشيكًا أن يضيع، فكأنهم استنقذوه، وكل ذلك مما يُكبره ويرفعه ويُبين عنه أحسن إبانة وأوضحها، وكل ذلك مما يُغري به الحرص على سنة طبيعية قاهرة لا تُدافع؛ وما زالت هذه من عجائب حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين الإسلامي وكتابه العربي الخالد، فكلما وهَن عصر من عصوره رماه الله بزنديق فإذا الناس أشد ما كانوا طيرة وأبلغ ما كانوا دفعًا ومحاماة، وإذا الدين أقوى ما كان فيهم وأثبت، وإذا الزنديق
كأنما سِيقَ إليهم من جهنم ليقول لهم: هلم إليها! فيقول ميسم النار عليه: إياكم وإياها!
فالمجددون الملحدون هم جزء من الخطأ يخرج من عمله جزء من
1 / 9
الصواب، وما أشبههم بالمواد السامة يُدافُ قليلها في الدواء لتكون قوته من
قوتها، فإذا مازجته عادت فيه غير ما كانت وهي في نفسها لا تزال كما هي.
وما نريد أن نزيد "طه " على ما قلنا فيه مما ستقرأه في هذا الكتاب، ولكنا
نرجو أن يهديه الله فيكون من أمته ويعود إليها، فإنه إن لم يكن بها لا يكن
بغيرها، وإنها إن لم تكن به تكن بغيره.
وقد كان أمره وأمر أصحابه كما يكون من الوباء يمر بالدنيا مرة فيصيب
منها ولكنه يترك في أيدي أطبائها المصل الواقي منه أبدَ الدهر؛ ولقد تركوا لنا هذا الكتاب؛ فالله نسأل أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، نافعًا بهذه النية، مثوبًا بهذا النفع؛ وله الحمد في الأولى والآخرة.
مصطفى صادق الرافعي
1 / 10
المذهبان القديم والجديد
"كتب أحد الكتاب فصلًا في مجلة الهلال"
الغراء، نحلنا فيه زعامة المذهب القديم، وسمي
جديدًا وسمي قديمًا واحتج ونازع، فرددنا عليه
بهدا الفصل"
زعم الكاتب فيما كتب أن ما نقول به، من احتذاء العرب في أساليبهم
والارتياض بكلامهم، والحرص على لغتهم، وأن يكون الكاتب في هذه اللغة
حَسن البيان، رشيق المعرِض، رائع الخلابة، يتثبت في ألفاظه وينظر في
أعطاف كلامه ويفتن في أساليبه - كل هذا وما إليه "مذهب قديم".
"ووطنية أدبية" ترجع العلة فيها إلى ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي.
ثم قال: "وإن أهل المذهب القديم يهملون العلم، لأن العلوم
تتعارض ومعتقدات العرب،. وظاهر أنه يعني بالعرب المسلمين لا غيرهم، فإن الجاهلية أصبحت من أكاذيب التاريخ وبَلِيَتْ معتقداتها بلَى أدخلها في قبور أهلها.
فالمذهب القديم إذًا هو أَن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها
وفروعها، وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي تحويها لا تزال حية تنزل من كل زهن منزلة أمة من العرب الفصحاء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو هو كأنما نزل به الوحي أمس لا يَفتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين، إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء لا منفعة فيهما معًا إلا بقيامهما معًا.
ولكن ما هو المذهب الجديد؛ أنأخذ بالمقابلة فنقول: إذا كان الأبيض هو
القديم فالأسود هو الجديد، وإذا كانت الفصاحة، وإذا كان الحرص على ميراث التاريخ، وإذا كان القانون الطبيعي للفضيلة الاجتماعية، وإذا كنا نولد بجلود كجلود آبائنا - فالركاكة، وإهمال القومية التاريخية، والتحلل من قيود الواجبات، والانسلاخ من الجلد لأنها ليست أوروبية - كل هذا جديد لأن كل
1 / 11
ذلك قديم؟.. أم هناك حقيقة ثابتة محدودة خفيتْ على عِظمها وخطرها في
هذه اللغة خفاء أمريكا في هول المحيط.. حتى بعث الله لها في أيامنا هذه من
يرميها ببصره فكشفها وسماها وكان منها المذهب الجديد وكانت هي إياه.
لو تأمل أصحابنا تاريخ هذه اللغة وآدابها لرأوا في كل عصر من عصورها
شيئًا كان يمكن أن يسمى مذهبًا جديدًا، ولكنا لم نجد أحدًا سماه كذلك ولا
بناه على أنه شيء بنفسه إلا في هذه الأيام الأخيرة، ثم لم نجده إلا في هؤلاء
الذين غلبت عليهم صناعة الترجمة ورجعوا من العربية إلى طبع ضعيف ومادة
واهنة، فورد عليهم من الصناعة ما لا تقوم به أداتهم وسال بهم الوادي عجزًا، فلم يكن بدٌ من أن تُدخِل اللغات الأعجمية الضيمَ على عربيتهم، وصار أكثرهم بِلغتيه كالميزان ثقلت كفة منه فرجحت وخفت الأخرى فظهرت فارغة. . . ولو هو وضع في هذه وزنَ ما في تلك وكافًا بينهما لانقلب الأمر وكانتا على سواء فلا واف ولا ناقص.
العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد، بل إلى الضعف في
لغة والقوة في أخرى، وإن صاحب المذهب الجديد.. أخذ بالحزم في واحدة
وبالتضييع في الثانية، وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر، فتعلق به وأمضى أمرَه عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من العصبية للأدب الأجنبي وأهله، فلما ضربتْ هذه العصبية واستحكمت وجهت الذوق في الأدب وأساليبه إلى تفسير معين بحكم المذهب والهوى ثم جعلت الفهم من وراء الذوق.
وأنت تعلم أن الذوق الأدبي في شيء إنما هو عن فهمه، وأن الحكم على
شيء إنما هو أثر الذوق فيه، وأن النقد إنما هو الذوق والفهم جميعًا، ومن
ههنا جاء ذلك الخطأ الذي يحسبونه صوابًا، على أنك واجد في القوم من لا
تتهم فهمه ولكنك لا تبرئ إنصافه، ومن لا تتهم فيه هذا ولا ذاك ولكنه مع
ذلك يجيء فهمه خطأ لأنه لا يريد أن يجيء إلا هكذا. . . لمكان العصبية من
نفسه لرأي على رأي، أو شخص على شخص، أو دين على دين، مما لا يكون الشأن فيه إلا للحس الباطن.
وقد قال علماء الأدب إنه لما اتسعت ممالك العرب وكثرت الحواضر
ونزعت البوادي إلى القرى وفشا التأدب والظرف، اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كئيرة فاختاروا أحسنها مسمعًا وألطفها من القلب موقعًا، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها،
1 / 12
كما رأشهم يختصرون (الطويل)، فإنهم وجدوا للعرب فيه نحوًا من ستين لفظة
أكثرها بشع شنع. . . فنبذوا جميع ذلك وتركوه واكتفوا بالطويل لخفته على
اللسان. وقع هذا ومثله في عصر بعد عصر، وما رأينا أحدًا سماه مذهبًا جديدًا أو زعمه، والقرآن نفسه مذهب جديد بكل معاني هذه الكلمة، وما قال فيه أحد هذا القول لا من أهل اللغة ولا ممن دخلوا عليها؛ وقد نقل عبد الحميد الكاتب أشياء من الأساليب الفارسية فأدخلها في كتابته، وترجم العلماء عن اللغات المختلفة أكثر مما يترجم كتاب هذه الأيام، ومنهم من كان يرجع في التصحيح وتحرير الألفاظ إلى رجال أهدفوهم لذلك من العلماء باللغة، وظهرت الأفكار المتياينة، وتعددت الأساليب في الكتابة، وافتن المتأخرون من القرن الرابع إلى التاسع في فنون من الجد والهزل، وفي نكت بديعية لم يعرفها العرب إلى أن اختلط لسانهم، وفي كل ذلك لم يقل أديب ولا عالم ولا كاتب إن له مذهبا جديدًا من مذهب قديم، لأنهم كانوا أبصر باللغة وأقدر على تصريفها وأعلم بحكمة الوضع فيها وأحرص على وجوه الفائدة منها والانتفاع بها، ثم كانت أسباب اللغة ميسرة لهم، ينشأ الناشئ منهم على حفظ ورواية، ويتلقى عن أشياخ ثقات قد أخلصوا نيتهم للعلم وناصحوا عن أنفسهم فيه وجمعوا واستوعبوا وكأنما عُصرت أرواحهم من الفنون عصرًا، وكان في الواحد منهم روح مكتبة كبرى.
فلما تعطل الزمن وأصبح الأدب صَحفيا.،. وآلت العربية وآدابها إلى
بضعة كتب مدرسية، وانزوى ذلك العلم المستطيل وأصبحت المكاتب له
كالقبور المملوءة بالتوابيت. . . "، وفشت العصبية بيتا للأجنبي وحضارته - رجع الأمر على مقدار ذلك في صغر الشأن وضعف المنزلة، واجتاج أهل هذا القليل من العربية إلى أن يعتبره كلا بنفسه لا جزءًا من كله، فكان لذلك مذهبًا وكان مذهبًا جديدًا. . .
وإذا أنت لم تجد في كل علماء المتقدمين من استطاع أن يقول إنه صاحب
مذهب جديد في اللغة أو يرى لنفسه رأيًا إلا أنه يعمل لحفظها ونمائها ورونقها، وإلا أنه يُرفق ما استطاع ويتصرف بما أطاق - فإنك واجد في أهل سنة
١٩٢٣. . . من يقول في هذه اللغة بعينها: "لك مذهبك ولي مذهبي.
1 / 13
ولك لغتك ولي لغتي. . . فمتى كنت يا فتى صاحبَ اللغة وواضعها ومنزِّل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومُطلق شواذها؛ ومن سلم لك بهذا حتى يسلم لك حق التصرف "كما يتصرف المالك في ملكه!.
وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد، ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك؛ إنه لأهون عليك أن تولد
ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة
التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئًا فيها - من أن تلد مذهبًا جديدا أو تبتاع لغة تسميها لغتك، فإنك عُمر واحد في عصر واحد بين ملايين من الأعمار في عصور متطاولة، وإن ما تحدثه على خطأ لا يبقى على أنه صواب، ولن يبقى أبدًا إلا كما تبقى العلة على أنها علة، فلا يقاس عليها أمر الصحيح ولا يحكم بها فيمن لم يعتل.
إن أرادوا بالمذهب الجديد العلم والتحقيق وتمحيص الرأي والإبداع في
المعنى، على أن تبقى اللغة قائمة على أصولها، على أن يكون التفنن "طرائق "
كما قيل مثلًا في ابتداع القاضي الفاضل الذي سموه الطريقة الفاضلية.
لا مذاهب يراد بها إثبات ومحو - فإننا لا ندفع شيئًا من هذا ولا ننازع فيه، بل هو رأينا، بل هو رأي الحياة، بل هو قانون الطبيعة، ولكنا مع هذا نزيد عليه أن الأصل في كل ذلك سلامة اللغة وسلامة القومية، فلا ننظر في آراء الأمم إلا على أننا شرقيون، ولا ننقل من لغات الإفزنج إلا على أننا أهل لغة لها خصائصها، ولا تصرفنا مدنيتهم عن أنفسنا، ولا تأتي بسيوفهم لرقابنا.
وبنزغاتهم بقلوبنا، وكوكايينهم لأنوفنا..، بل يُؤثر الفضيلة على الرأي وإن كان من رأس المجنون "نيتشه" ونرغب في المصلحة الجافية الخشنة على المفسدة
اللينة الناعمة وإن كانت نعومة الأنوثة الباريسية.
وانظر كم بين من يسلم لفلان وغيره من علماء أوروبا لأنهم من علماء
أوروبا، وبين من لا يسلم إلا عن اقتناع وعن بينة من المصلحة والعائدة وبعد
أن تبلغ الحجة مبلغها! فهذا فلان كاتب شرقي ينزع إلى الاشتراكية ويدين بها
ويراها مائدة الخالق التي مُدت في أرضه للناس جميعًا، وينعى علينا أننا
نتجاهلها كأننا لم نلمَّ بها، على أننا نراها تلك المائدة بعينها غير أننا نزيد عليه
أنها ممدودة للناس جميعًا ليتدافع عنها الناس جميعًا فلا يصل إليها أحد. . .
1 / 14
ونفضل على كل هذه المائدة الخيالية بما حفلت به من لذائذها وألوانها، تلك
اللقيمات التي يفرضها نظام الزكاة في الإسلام فرضًا لا يتم الإسلام لأحد إلا به وعلى هذا فاعتبر
ولا يفوتن صاحبنا أن كثرة الآراء في هذا العصر وكثرة العقول المفكرة
والاستقلال الفكري التام. . . بلا قيد ولا شرط، ثم الرغبة في أن يكون لكل عقل أثر في الاجتماع، ولكل أثر دليل عليه، ولكل دليل اتباع - كل ذلك سينتهي إلى أن تكون علة الاجتماع الإنساني لا بُرءَ منها إلا بالقيود الإلهية التي تسمى " الأديان "، وها نحن أولاء نرى في أوروبا وأمريكا أن من الغفلة ما هو مذهب، ومن الرقاعة مذهب، ومن تسفل الشهوات مذهب، ومن الجنون مذهب، ومن كل شذوذ مذهب، ومن غير المذهب مذهب أيضًا..
تلك واحدة، والثانية: أنهم إن أرادوا بالمذهب الجديد أن يكتب
الكاتب في العربية منصرفًا إلى المعنى والغرض، تاركًا اللغة وشأنها، متعسفًا
فيها، آخذًا ما يتفق كما يتفق، وما يجري على قلمه كما يجري، معتبرًا ذلك
اعتبار من يرى أن مخه بلا غلاف من عظام رأسه، وأن عظام رأسه كعظام
رجليه، وأن أصابع قدميه كأهداب عينيه، وأن مطلق التركيب هو مطلق النظام والمناسبة، وأن اللغة أداة ولا بأس بالأداة ما اتفق منها، ولا بأس أن يمزع الجراح مزعًا من جلد العليل بأسنانه أو بأظافره أو بنصل الفأس. . .
ما دامت معقمة. وما دام ذلك بعينه هو فعل المِبضَع لا يزيد المبضع عليه إلا في الدقة -
إن أرادوا بهذا أو أشباهه ما يسمونه المذهب الأدبي الجديد، قلنا: لا، ثم لا، ثم لا - ثلاث مرات!
فأما الأولى فإن خيرًا من ترك الجاهل في جهله أن يُزجَر عن جهله.
وإذا كان مذهب الضعف أن لا يحمل عليه إلا بقدره وفي طاقته، فهل يجعل ذلك أصلًا للقوة؛ والضعف إن هو إلا استثناء منها، وقاعدة الاستثناء أن يُقيَّد بنصه ولا يُتوسع فيه. . .
ثم أيما خير لآدابنا وعلومنا وكتبنا: أن نحرص على الأصل الصحيح
القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن
إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خير من أمة فتجد الأصل
سليمًا فتبني عليه وتزيد فيه، أم ندع الصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى
تحول ضعفًا فإذا جاء من بعدنا وجدَ الأصل فاسدًا فزاده فسادًا، ويعود مذهبنا
1 / 15
الجديد بعد حين من الدهر مذهبًا قديمًا فيُستحدَث منه جديد على نمط آخر.
ثم يتقادم* هذًا أيضًا على السنة نفسها، وهلم إلى أن تصير هذه العربية في بعض أزمانها لعنةَ على كل أزمانها، فتُنسخ جملة واحدة ويصبح الكلام المأنوس الذي تراه اليوم سهلًا لينًا وهو الجاسِي الجِلف الغليظ الذي يحسن ترجمته يومئذ إلى عالم بصير بما كان يسمى من قبل فعلًا واسمًا وحرفًا.،. وإلا فليقل لنا أصحاب المذهب الجديد. ما هو حدُّ التجديد عندهم؛ ولم يقصرونه على حد معين؛ بل كيف يقصرونه وفي الناس من هو أضعف من ضعيفهم فوجب أن يكون له جديد من جديدهم على مقدار صعفه، ما دام شكل القياس واحدا والقضية فيه واحدة والعلة لا تختلف!
وأما الثانية، فإن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن
الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا من لا حَفل
به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق. فإذا كان المعجِز فى لغة من اللغات
بإجماع علمائها وأدبائها هو من قديمها خاصة، فهل يكون الْجديد فيها كمالًا
يسمو أم نقصًا يتدلي؟ . . .
. . . ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة، ولا يدنو الفهم منها إلا
بالمِران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها وأحكام - اللغة
والبصر بدقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق فيها، وكل هذا مما يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها، ضربًا من الفساد والجهل، فلا تزال اللغة كلها مذهبًا قديمًا، وإنما يكون المذهب الجديد فيها رجلًا إلى حين. . . ثم يدخل مذهبه القبر. . .
. . . وما عسى أن يصنع كاتب وعشرة ومائة وألف في لغة يخفق على
كتابها المعجز - أربعمائة مليون قلب؛ وكم من أسلوب ركيك أو ضعيف أو عامي ظهر في هذه اللغة منذ دَونوا وكتبوه، وكم، من فكر فاسد أو زائغ أو مدخول، وكم من كتاب كان يصلح أن يسمى بلغة اليوم مذهبًا جديدًا - فأين كل ذلك وأين أثره في اللغة وأساليبها بعد ثلاثة عشر قرنًا؛ لقد ابتلعته ثلاث عشرة موجة فانحدر إلى أعماق الموت الطامي! . . . .
. . . على أني رأيت لأصحاب "المذهب الجديد" أصلًا في تاريخ الأدب
البربي، وكانت جذوره ممن انتحلوا الإسلام وهم يدينون بغيره، وممن كانوا
يدينون وتزندقوا فيه، حتى قال الجاحظ في بعض رسائله - يعني هؤلاء
1 / 16
وأولئك -: "فكل سخنة عين رأيناها في أحداثنا وأغبيائنا تأمل، فمن قبَلهم كان أولها" ورحم الله أبا عثمان، إن التاريخ ليعيد نفسه اليوم "بسخنة عين
جديدة".
وأما الثالثة فإن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها، ولكن في
تركيب ألفاظها، كما أن الهزة والطرب ليست في النعمات ولكن في وجوه تأليفها.
وهذا هو الفن كل الفن في الأسلوب، لأنه يرجع إلى الذوق الموسيقي في حروف هذه اللغة وأجراس حروفها، وأشهد ما رأيت قط كاتبًا واحدًا من أهل "المذهب الجديد" يحسن شيئًا من هذا الأمر، ولو هو أحسنه لانكشف له من إحسانه ما لا يُبقي عنده شكًّا في إبطال هذا المذهب وتوهيته، ولذا تراهم يعتلون لمذهبهم الجديد بالفن والمنطق والفكر وبكل شيء إلا الفصاحة، وإذا فصُحُوا جاؤوا بالكلام الفج الثقيل، والمجازات المستوخِمة، والاستعارات الباردة، والتشبيهات المجنونة.، والعبارات الطويلة المضطربة التي تقع من النفس كما تقع الكرة المنفوخة من الأرض لا تزال تنبو عن موضع إلى موضع حتى تهمد!.
ولا نريد أن نطيل في هذا الوجه، فقد استوفينا أكثر الكلام عليه في الجزء
الثاني من "تاريخ آداب العرب "، وإنما نقول إن الكلام الوحشي الغريب ينقسمِ إلى قسمين: ما كان خشنًا مُستغرَبًا لا يعلمه إلا باحث مطلع.
وما كان مأنوسا واقعًا في غير موقعه، كما ترى في أساليب بعض كتاب هذه الأيام التي تنفجر بما لا يطاق على رقتها وتهب عليك هبوب النسيم ولكنه بين موضع وموضع لا بد أن يكنس الأرض. . .!
فالقسم الأول نافر بنفسه،. فهو وحشي على حالة واحدة لا تختلف.
والثاني نافر بموضعه، فهو وحشي يعلو ويسفل على مقدار اضطرابه، ثم هي
وحشية المذهب الجديد اختص بها ولا يكادون يتنبهون إليها.
هذه كلمة لم نعرض في إجمالها للتفاصيل وإنما حَدَرناها حدرًا، وإذا
أنت أردت تشبيهًا في مخاصمة المذهب الجديد للقديم وما يتوهمه هذا الجديد
وما ينتهي إليه أمره، قلنا لك التمس رجلًا يرى ظل رأسه على حائط فيضربه برأسه الذي على عنقه. -.!
ولكن اعلم أنا وإياك إلا نحذره ونمنعه فقد جنينا عليه وإن لم نمسه
بأذًى، وإن كان هو برأسه فَلق رأسه..!
1 / 17
الميراث العربي
كان أبو خالد النميري في القرن الثالث للهجرة، وكان ينتحل الأَعرابية
ويتجافى في ألفاظه ويَتبادى في كلامه ويذهب المذاهب المنكرة في مضغ الكلام
والتشدق به، ليتحقق أنه أعرابي وما هو به، وإنما ولد ونشأ بالبصرة، قالوا
فخرج إلى البادية فأقام بها أيامًا يسيرة ثم رجع إلى البصرة فرأى الميازيب على
سطوح الدور فأنكرها وقال: ما هذه الخراطيم التي لا نعرفها في بلادنا. . .؟ فهذا طرَف من العربية يقابله التاريخ في زماننا هذا بطرف آخر من جماعة
قد رُزقوا اتساعًا في الكلام إلى ما يفوت حد العقل أحيانًا، ووهبوا طبعًا زائغًا
في انتحال المدنية الأوروبية إلى ما يتخطى العلل والمعاذير، ورأوا أنفسهم أكبر
من دهرهم، ودهرهم أصغر من عقلهم، فتعرف منهم أبا خالد الفرنسي، وأبا خالد الإنجليزي، وغيرهم من أجازوا إلى فرنسا وانجلترا فأقاموا بهما مدة ثم رجعوا إلى بلادهم ومَنبتهم ينكرون الميراث العربي بجملته في لغته وعلومه
وآدابه، ويقولون: ما هذا الدين القديم؛ وما هذه اللغة القديمة؟ وما هذه
الأساليب القديمة؟ ويمرُّون جميعًا في هدم أبنية اللغة ونقض قواها وتفريقها.
وهم على ذلك أعجز الناس عن أن يضعوا جديدًا أو يستحدثوا طريفًا أو يبتكروا بديعًا، وإنما ذلك زيغ الطبع، وجنون الفكر، وانقلاب النفس عكسًا على نشأتها، حتى صارت علوم الأعاجم فيهم كالدم النازل إليهم من آبائهم وأجدادهم وصار دخولهم في لغة خروجًا من لغة، وإيمانهم بشيء كفرًا بشيء غيره كأنه لا يستقيم الجمع بين لغتين وأدبين، ولا يستوي لأحدهم أن يكون شرقيًا وإن في لسانه لغة لندن أو باريس!
ومنهم كتاب يكتبون بالعربية ويرتزقون منها - وأدباء يبحثون في آدابها
وفنونها، وكلهم مجيد محسن إلا حيث يكتب كاتبهم في إصلاح الكتابة ويبحث باحثهم في إصلاح الأدب، فهنالك ترى أكثر هَمِّ الأول أن تسلم له عاميته
1 / 18
فلا ينكر عليه ضعف ولا لحن ولا يهجن له أسلوب ولا عبارة وأن يكون له كل ما يعرض له من النقص معتبرًا من الكمال العصري. . .
وترى همَّ الثاني أن يُكره الآداب العربية على أساليب غيرها ويقتسرها جزًا وتلفيقًا وتلزيقًا ويبسط فيها المعاريض الكلامية، فهذا عنده كذب ولا دليل عليه، وهذا محال ولا برهان فيه، وهذا قائم على الشك، وذاك على ما لا أدري ولا يدري أحد.
حدثني كاتب شهير من هذه الفئة، فكان من أعجب ما قال: إن ابن
المقفع فصيح بليغ، وهو مع ذلك ليس بمسلم ولا عربي ولا شأن له بالحديث
ولا بالقرآن ولا بالدين، وساق ذلك ردًا على ما قلته من أن لا فصاحة ولا لغة إلا بالحرص على القرآن والحديث وكتب السلف وآدابهم.
ولا أدري والله كيف يفهم هذا وأمثاله، ولكنك تتبين في عبارته مبلغ الغفلة التي تعتري هذه الفئة من نقص الاطلاع وضعف الفكر وبناء الأمر على بحث صَحفي بلا تحقيق ولا تنقيب، وترى كيف يذهبون عن الأصل الذي يقوم عليه الغرض ثم يحاولون أن يؤصلوا له على قدر عقولهم وأفهامهم، وقد تفلح الفلسفة في كل شيء إلا في
تعليل ما علته معروفة، وهل نشأ ابن المقفع إلا على اللغة العربية والأدب
العربي والرواية العربية، وكان من أقوى أسباب فصاحته المشهورة أخذه هذه
الفصاحة وهذا الأسلوب عن ثور بن يزيد الأعرابي الذي قالوا فيه إنه كان من
أفصح الناس لسانًا. ولكن أين من ينقب عن هذا ونحوه في تلك الجماعة أو - يتوهمه فيقف عفى حذه، وهل علموا أن ابن المقفع على انصرافه إلى النقل من الفارسية ولليونانية اختار يومًا أسلوب العامة في زمنه، أو استجاده للنقل
والترجمة، أو خرج على الأدب الذي تادب به أو حاول فيه محاولة، أو قال
بوجوب هدم القديم لأنه لا يرى للعرب مثل الذي لا يعرف لليونان من العلم
والحكمة والخيال وأساليب الحكاية الكتابية، أو نزل بأسلوبه وكتابته منزلة من يمكُر الحيلة في اللغة أو يكيد للأدب أو يساهل نفسه لغرض كالذي في نفوس هؤلاء المجددين؟
قال لي ذلك الكاتب في بعض كلامه؛ إن الميراث العربي القديم الذي
ورثناه يجب هدمه كله وتسويته بالعدم. تلت: أفتحدث أنت للناس لغة وأدبا وتاريخًا ثم طبائع متوارثة تقوم على حفظ اللغة والأدب والتاريخ أم تحسب أنك تستطيع بمقالة عرجاء في صحيفة مقعدة. . . أن تهدم شيئًا أنت بين أوله وآخره كعود من القش يؤتى به لاقتلاع جبل من أصوله.
من أين جاء الميراث العربى وكيف اجتمع وتكامل إلا من القرآئح التي
1 / 19
جدَّت في إبداعه وإنمائه، وأضافت أعمارها صفحات فيه، واستخلصت له آداب الفرس والهند واليونان وغيرهم، فأعربت كل ذلك ليندمج في اللغة لا لتندمج اللغة فيه، وليكون من بعضها لا لتكون من بعضه، وليبقى بها لا لتذهب به؟
ومن ذا الذي يزعم أن العرب هم كل الأرض، وأن آدابهم خلقت على
الكفاية لا تحتاج إلى تحرير أو تبديل؛ ولكن من ذا الذي يرضى أن يجعل لكل
أرض عربية لغة عربية قائمة بنفسها، ولكل مصر أدبًا على حياله، ولكل طائفة من الكتاب كتابة وحدها؛ ومن ذا الذي فعل ذلك أو حاوله في التاريخ الإسلامي كله على طول ما امتد وتساوق؟
لقد كانت القبائل العربية مادة هذه اللغة وسبب اتساعها واستفاضتها.
وكان فحول الشعراء من الجاهلية كأنَّ كل واحد منهم قبيلة في التفنن والإبداع مجازًا واستعارة وبديعًا، ثم جاء القرآن الكريم فكان الغاية كلها، ثم تتابع الشعراء والكتاب والأدباء فمن لم يزد منهم على الموجود لم ينقص منه، ثم جاء أدباء المترجمين وفيهم من جمع البراعة من أطرافها فكانوا هم القبائل
الحديثة في معاني اللغة وفنونها، وكان مذهبهم في كل ما ترجموه وما اقتبسوه
هذه الكلمة التي قالها العتابي " اللغة لنا والمعاني لهم" يريد العجم.
وكان ينسخ من كتبهم وقد يسافر في طلب الكتب شهرًا، والعتابي من أبلغ من أخرجتهم العربية وكان واحد دهره في الأجوبة المسكتة ولولا فصاحته لما بقي اسمه.
فلو صنعت القبائل الحديثة من أبي خالد الفرنسي إلى أبي خالد الإنجليزي
هذا الصنيع لكان رأس أمرهم الحرص على اللغة، ثم إن شدُّوا عليها أيديهم
فسيحرصون على كتبها التي هي مادتها، ثم إن جمعوا هذه فيدرسونها
ويتناقلونها، ثم إن هم تدارسوها فقد رسخت فيهم الملكة واستحكم عندهم
الذوق وانقاد لهم الطبع واستفحصوا واستجادوا؛ فإذا انتهينا إلى هذا لم يبق من موضوع يخالفون عليه، وصار أدباء اللغة جميعًا جنسًا واحدًا ولم يبق إلا النقد يبين شخصًا من شخص وطريقة من طريقة، واللغة بعدُ محفوظة سليمة وإليها المرجع كله ولها العمل كله وهي الأمر كله، وهذا ما تقوم عليه آداب الأمم المستقلة المنفردة بجنسيتها ومقوماتها.
ألا يرى أبو خالد الإنجليزي وأبو خالد الفرنسي كيف تُباهي كل أمة في
أوروبا بلغتها، وكيف يفخر الفرنسيون بلسانهم حتى إنهم ليجعلونه أول ما
يعقدون عليه الخنصر إذا عدوا مفاخرهم ومآثرهم، وهل أعجب من أن المجمع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر
1 / 20
الحرب الكبرى ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة "نظام الحصر
البحري "، وكانت مما جاءت مع نكبات فرنسا في الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمع العلمي أن الكلمة وحدها نكبة على اللغة كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارَته وسلاحه وعلمه يعلن عن قهر أو غلبة أو استعباد! وهل فعلوا ذلك إلا أن التهاون يدعو بعضه إلى بعض، وأن الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتصوُّن، وأن الاختلاط والاضطراب يجيء من الغفلة، والفساد يجتمع من الاختلاط والاضطراب.
إنما الأمور بمقاديرها في ميزان الاصطلاح، لا بأوزانها في نفسها، فألف
جندي أجنبي بأسلحتهم وذخيرتهم في أرض هالكة بأهليها ربما كانوا غوثًا
تفتحت به السْماء، ولكن جنديًا واحدًا من هؤلاء في أمة قوية مستقلة، تنشق له الأرض وتكاد السماء أن تقع، فالمذهب الجديد فساد اجتماعي ولا يدري أهله أنهم يضربون به الذلة على الأمة.
وتلك جنايتهم على أنفسهم وجنايتهم على الناس بأنفسهم، وهم لا
يشعرون بالأولى فلا جرم لا يأنفون من الثانية!
1 / 21
الجملة القرآنية
نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام
على " رسائل الأحزان" بقول جاء في بعض معانيه أني لو تركت "الجملة
القرآنية" والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى على ولملأت الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةَ لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهبًا وحدي!
ولقد وقفت طويلًا عند قولها " الجملة القرآنية" فظهر لي في نور هذه
الكلمة ما لم أكن أراه من قبل، حتى لكأنها "المكرسكوب! وما يجهر به من
الجراثيم مما يكون خفيا فيستَعْلن ودقيقًا فيستعظم، وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تعرف العلل الكبرى إلا به.
وإاذا أنا تركت الجملة القرآنية وعربيتها وفصاحتها وسموها، وقيامها في
تربية الملكة وإرهاف المنطق وحل الذوق مقام نشأة خالصة في أفصح قبائل
العرب، وردَّها تاريخنا القديم إلينا حتى كأننا فيه، وصلتنا به حتى كأنه فينا.
وحِفظِها لنا منطق رسول الله ﷺ ومنطق الفصحاء من قومه حتى لكان ألسنتهم، عند التلاوة هي تدور في أفواهنا وسلائقهم هي تقيمنا على أوزانها - إذا أنا فعلت ذلك ورضيته، أفتراني أتبع أسلوب الترجمة في الجملة الإنجيلية. . .
وأسِفٌ إلى هذه الرطانة الأعجمية المعربة، وارتضخ تلك اللكنة المعوجة.
وأعين بنفسي على لغتي وقوميتي، وأكتب كتابة تميت أجدادي في الإسلام ميتة جديدة فتنقلب كلماتي على تاريخهم كالدود يخرج من الميت ولا يأكل إلا الميت، وأنشئ على سنتي المريضة نشأة من الناس يكون أبغض الأشياء عندها هو الصحيح الذي كان يجب أن يكون أحب الأشياء إليها؟
كنت أعرف أن صاحبنا الكاتب البليغ المدقق الشيخ إبراهيم اليازجي لما
1 / 22