تحقيقات وأنظار
في القُرآنِ والسُّنَّةِ
تَأليفُ
فضِيْلَةِ الشيَّخِ محَّمد الَّطاهرِ ابْنِ عاشوُرِ
1 / 1
تمهيد
تنبيه ونصيحة
إن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هيَّنَّا وهو عند الله عظيم قضى عليَّ أن أنبه إخواننا إلى خطر أمر تفسير كتاب الله والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين، أو من إبداء تفسير أو تأويل من قائله إلا إذا كان القائل قد توفرت فيه شروط المفسر من الضلاعة في علوم الشريعة وعلوم العربية ولا سيما علمي المعاني والبيان اللذين بدونهما لا يأمن المرء من تكرر الخطأ في فهم معاني القرآن فيضل المقدم على ذلك ويضل غيره، وقد قال العلامة الزمخشري في خطبة الكشاف: «إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح ... علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم.
فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بزَّ أهل الدنيا في صناعة الكلام ... والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه، لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق، إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني، وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، بعد أن يكون آخذًا من سائر العلوم بحظ، جامعًا بين أمرين تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زمانًا ورجع إليه ورد عليه فارسًا في علم الإعراب، مقدمًا في جملة الكتاب (يعني كتاب سيبويه) وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة منقادها، مشتعل القريحة وقادها، يقظان النفس، دراكًا للمحة وإن لطف شأنها، منبهًا على الرَّمزَة وإن خفي مكانها) ا. هـ.
وقال العلامة السكاكي في المفتاح: «وفيما ذكرنا ما ينبه على أن الواقف على تمام مراد الحكيم تعالى وتقدَّس من كلامه مفتقر إلى هذين العملين المعاني والبيان أشد الافتقار، فالويل كل الويل لمن تعاطى التفسير وهو فيهما راجل» ا. هـ.
1 / 7
وقد ذكر القرطبي في مقدمة التفسير: «إن من فسَّر شيئًا من القرآن بدون مستند من نقل صحيح أو دليل اقتضته قوانين العلم؛ كالنحو، والأصول، والبلاغة فهو متبع لهواه ورأيه المجرد، واقع في الوعيد الوارد فيمن فسر القرآن بهواه ورأيه».
وبرغم هذا ونحوه قد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن. فمنهم من يتصدى لبيان معاني الآيات على طريقة كتب التفسير، ومنهم من يضع الآية ثم يركض في مجالات من أساليب المقالات تاركًا معنى الآية جانبًا، جالبًا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبًا، وقد دلَّت شواهد الحال على ضعف كفاءة البعض لهذا العمل العلمي الجليل، فيجب على العاقل أن يعرف قدره، وأن لا يتعدى طوره، وأن يرد الأشياء إلى أربابها، ويأتي البيوت من أبوابها. وعلى من لا يأنس من نفسه الكفاءة وهو يرغب في إفادة العموم بمعاني القرآن أن يقتصر على نقل كلام المفسرين في التفاسير المشتهرة عازيًا ذلك إلى مواقعه مع التحفظ على عباراته. وفي الناس طبقة ترتقي كفاءتها إلى درجة تخولها التصرف في جمع كلام المفسرين وترتيبه واختصاره. والواجب على كل راغب في التحلي بذلك أن يدقق النظر في ميزان نفسه ليقف عند الحد الذي يثق به عندها حتى لا يختلط الخاثر بالزباد، ولا يكون كحاطب في حالك سواد، وبذلك تحصل الفائدة والاستبراء للدين والعرض. وإن سكوت العلماء على زيادة في الورطة، وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء، ويخبط خبط عشواء، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه، وتمييز حلوه من أجابه، تحذيرًا للمطالع، وتنزيلًا في البرج والطالع.
محمد الطاهر ابن عاشوُر
* * *
1 / 8
تحقيْقات وأنظار
في القُرآنِ والسُّنَّةِ
القسم الأول
في القرآن
1 / 9
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
«كتب إليَّ أحد الفضلاء من بلد طولقة من عمالة قسنطينة يسألني عن قوله تعالى في سورة طه: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، وذكر أنه عجز عن فهم المراد منها وأنه تطلب كشف الإشكال فلم يحظ بكشفه، ولما رأيت من حذقه وسُمُوَّ همته أحببت أن أتحفه بتفسير هذه الآية على وجه أرجو أن يزيل إشكاله ويزيد على مثل هذا اللمم الشريف إقباله.
هذه الآية تندرج تحت القسم الثاني من أقسام المتشابه العشرة التي تعرضت لتأصيلها وفرعتها في تفسير سورة آل عمران ونشرت خلاصة ما كتبته فيها في مجلة الهداية الإسلامية في (ج ١٢) من المجلد (٢) لسنة (١٣٤٨ هـ) وحاصله أن هذا القسم هو من المتشابه الذي نشأ التشابه فيه من القصد إلى إعلام الأمة بمعانٍ من شؤون عظمة الله تعالى تعين إيرادها مجملة لتعظيم وقعها في نفوس السامعين حتى يستحضر كل لبٍّ مقدارًا من مدلولها على مقدار تفاوت القرائح والأفهام مع الاعتماد على إيمان المخاطبين بها أن لا يحملوها على ما يظهر بادئ الرأي من معانٍ لا تليق بجلال الله تعالى، وهذه الآية ونحوها كقوله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤، يونس: ٣، الرعد: ٢، الفرقان: ٥٩، السَّجدة: ٤، الحديد: ٤]، لكونها من المتشابه كانت طرائق علماء الإسلام في الكلام عليها مختلفة متفاوتة.
فأما السلف من الصحابة فلم يخض منهم فيه سائل ولا مسؤول، ولا تطلبوا بيانه من الرسول، وتلك سنتهم في أمثالها حين كانت عقائد الأمة سالمة من الدَّغل، وحين كان معظم انصرافها إلى حسن العمل، ثم حدث التشوف إلى الغوص على المعاني في عصر التابعين، وربما ظنت بكذابهم أسئلة السائلين، فأخذوا يسدون باب الخوض في مثل هذا، ويبتعدون عنه لِوَاذًا، وألحقوه بالمتشابه فقضوا بالإمساك عن تأويله، ويقولون آمنا به، ويتأولون لطريقتهم بقوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧]، ثم بقوله: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: ٧]؛ ولذلك نقل عن جماعة منهم أنهم قالوا في آيات المتشابه: «نمرها
1 / 11