Tahbir al-Waraqaat bi-Sharh al-Thulathiyyat
تحبير الوريقات بشرح الثلاثيات
Genres
تحبيرُ الوريقات
بشرح الثلاثيات
(شرح مختصر لثلاثيات البخارى ﵀
جمعُ وترتيبُ
أبى وداعة وليد بن صبحى الصعيدى
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، قدم نبينا على كل نبىٍّ أرسله، وكتابنا على كل كتابٍ أنزله، وجعل أمتنا الأخيرة الأولة، فله الشكر من معتقِدٍ أنه به وله، لا غنى إلا فى طاعته، ولا عز إلا فى التذلل لعظمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، جل عن شريكٍ وولد، وعز عن الاحتياج لأحد، وتقدس عن نظيرٍ وانفرد، وعلم ما يكون، وأوجد ما كان، " فبأى آلاء ربكما تكذبان "، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله ...
نبى صدقٍ هدت أنوار شرعته ... بعد العمى للهدى من كان عنيتا
أحيا به الله قومًا قام سعدهم ... كما أمات به قومًا طواغيتا
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١]
1 / 1
فهذه ثلاثيات البخارى، والذى علا فيها بسنده إلى النبىِّ (ﷺ)، فهى كواكب أسانيده العالية (١)، وقد حظيت بالاهتمام من أهل العلم فى القديم والحديث حتى أفردوها بالتصنيف، ومن الطريف أن الثلاثيات فى الكتب الستة- خاصة (٢) - ليس لها انتشار حيث أن أصحابها لم يتمكنوا من لقيا كبار الشيوخ، وقد كان أسنهم الإمام العلم الإمام البخارى، لذلك فإن مصنفه هو الذى احتوى على أكثر عدد من بين الكتب السته ففيه اثنان وعشرون حديثًا ثلاثيًا، يليه فى العدد سنن ابن ماجة، فقد وقفت على ثلاثة أحاديث كلها من طريق جبارة ابن المغلس، ولم يصح منهم إلا واحد صححه الشيخ الألبانى، ثم تلا ذلك من كتب السنة سنن الترمذى ففيه حديثُ واحد. ثم ليس ثمت ثلاثيٍّ في بقية الستة. فليس عند مسلم ولا أبى داود ولا النسائى من ذلك شيء كما ذكر أبو العلا
_________
(١) السند الثلاثى: هو أن يكون بين الراوى وبين المروى عنه الكلام ثلاثة رواه، والمقصود هنا بينه وبين النبىّ، وللبخارى فى صحيحه أسانيد رباعية وخماسيه وسداسية، أما أعلى سند موجود فى الكتب التسعة فهو فى الموطأ؛ ففيه سند ثنائى، يقول الإمام مالك: حدثنى نافع عن ابن عمر عن النبى ﷺ، أما أطول سند وقع فى كتب السنة، هو السند العشارى، وهذا عند النسائى فى كتاب الصلاة، قال: أخبرنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن، أخبرنا زائدة، عن منصور عن هلال، عن الربيع بن خثيم، عن عمرو بن ميمون، عن ابن أبى ليلى، عن امرأة أبى أيوب، عن أبى أيوب، عن النبى ﷺ قال: " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " والحديث فيه ستة من التابعين أولهم منصور، وقد رواه الترمذى عن قتيبة ومحمد بن بشار بسند عُشارى أيضًا.
(٢) ففى غير الكتب الستة ثلاثيات بل ثنائيات كما فى موطأ الإمام مالك، وأما مسند الإمام أحمد فثلاثياته تزيد على ثلاثمائة حديث، وعند الدارمىِّ أكثر من البخارى.
1 / 2
المباركفورى فى تحفة الأحوذى.
وقد مَنَّ الله علينا بسماع هذه الأحاديث بالسند المتصل إلى الإمام البخارى ثم بسنده إلى النبى (ﷺ) وذلك عن فضيلة الشيخ وحيد عبد السلام بالى - حفظه الله - بدايةً، ثم عن فضيلة الشيخ صلاح عبد الموجود - حفظه الله -
ولما كان المقصدُ من وراء العلم الفهم ثم تطبيق ما تعلمه العبد دون روايته فقط، لذلك لم يكن من المسَلَّم أن نكتفىَ برواية الأحاديث دون فهمٍ منا لما فيها من مسائل قَصَدها الشرعُ، وفى ذلك يقول السيوطى فى التدريب (١): " لا ينبغى للطالب أن يقتصر من الحديث على سماعه دون معرفته وفهمه فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل" ا. هـ
ومن فعل ذلك كان كمن ينبذ الكتاب وراء ظهره.
فأردت أن أقف لنفسى أولًا ولإخوانى بعد ذلك -لمن أراد -مع ما تحتويه هذه الأحاديث من ثمارٍ يانعة، ودررٍ لائحة، فإن الوحى نور، نستضيء به فى دياجير الشبهات والشبه، وأيضًا حتى لا نكون كمن أقام الحجة على نفسه، ثم إذا أقبلنا على الله سبحانه قيل لنا: " فبما كسبت أيديكم ".
وإنما قمت بهذا العمل حفاظًا على مسموعاتى، وما تحملته من أمانة، مرةً بالنظر ومرةً بالترتيب، ومرةً باستخراج الفوائد، وحفزنى على هذا العمل سلفنا - رحمة الله عليهم - واهتمامهم بمروياتهم ومسموعاتهم، وكان آخر ما وقفت عليه ما سطره الحافظ ابن حجر فى جزءٍ لطيف له بعنوان:
" الأحاديث العشرة الاختيارية العشارية الأسانيد " فقال ﵀:
" وأما هذه الأحاديث، وإن كان فيها قصور عن مرتبة الصحاح، فقد تحريت فيها جهدي، وانتقيتها من مجموع ما عندي، وبينت علة كل حديث بعقبه، وأوضحت ما فيه للمنتبه " ا. هـ
فقلت ليكن لى فيهم أسوة، وإن لم أبلغ قلامة ظُفر أحدهم، وكان هذا هو الداعى الأول،
أما الداعى الثانى:
_________
(١) التدريب، ٣٦٩
1 / 3
فإننا نتعلم لنعمل، ولا سبيل للعمل إلا بعد الفهم، قال عمرو بن قيس المُلائى كما فى الحلية: " إذا بلغك شيء من الخبر فاعمل به ولو مرة تكن من أهله "
ثم نتعلم لنبلغ ولا نكتمه.
قال النووى فى التقريب: " فإن كتمانه لؤمٌ يقع فيه جهلة الطلبة فيخاف على كاتمه عدم الانتفاع، فإن من بركة الحديث إفادته ونشره يُمْن "
وقال الإمام مالك (١): " الناس في العلم اربعة:
رجل علم فعمل به: فمثله في كتاب الله قوله تعالى: " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " (فاطر، ٢٨)
ورجل علم به ولم يُعَلِّمه: فمثله في كتاب الله: " إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " (البقرة، ١٥٩)
ورجل علم علمًا وعلم ولم يعمل به: فمثله في كتاب الله: " إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا "
(الفرقان، ٤٤) "
فوجب التعلم ثم الفهم ثم العمل ثم الدعوة إلى ما عَلِمناه بما تعلمناه، وكل ذلك ليس لنا إليه سبيل إلا بعد أن نقف على ما فى هذه الأحاديث من دروس وعبر.
ولا أدعى فى ذلك أنى جئت بجديد، أو وقفت على ما لم يقف عليه أحد، ولا أدعى أنى انتحلت هذا من عندى، ولكنها ثمار اجتنيتها من بساتين القوم وليس لى فيها كبير جهد إلا الترتيب، فلا أنسب من ذلك شيء إلى نفسى، متذكرًا كلام ابن المقفع فى الأدب الكبير (٢):
" إن سمعتَ من صاحبك كلاما أو رأيت منه رأيا يعجبك فلا تنتحله تزينا به عند الناس. واكتف من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه. واعلم أن انتحالك ذلك مسخطةٌ لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عارا وسخفا ". فأنا أربأ بنفسى عن السخافة والعار.
_________
(١) ترتيب المدارك وتقريب المسالك، القاضي عياض،٥٩
(٢) الأدب الكبير والصغير، ١٩
1 / 4
وعن العباس ابن محمد الدوري أنه سمع أبا عبيد القاسم بن سلام يقول (١): من شُكْر العلم ذكركُ الفائدة منسوبةً إلى من أفادك إياها أو كما قال.
وقد جاء هذا الشرح فى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: مباحث بين يدى البحث كتوطئةً له.
الباب الثانى: شرح الثلاثيات حسب مسند كل صحابىّ.
الباب الثالث: روايات لها علاقة بالثلاثيات عند البخارى فى صحيحه وفى كتابه الأدب المفرد.
ثم الخاتمة، سائلًا الله ﷿ أن يختم لنا بخير.
وأختم المقدمة بما قاله ابن قتيبة فى عيون الأخبار، مهونًا عليك أن تسمع من مثلى أو تقرأ لمثلى، فالحكمة ضالة المؤمن نأخذها عمن فوقنا وعمن تحتنا:
" لا تستنكف أن تأخذ عن الحديث سنًا لحداثته، ولا عن الصغير قدرا لخساسته، ولا عن الأمَة الوكعاء (٢) لجهلها، فضلا عن غيرها. فإن العلم ضالةُ المؤمن، من حيث أخذه نفعه، ولن يزري بالحق أن تسمعه من المشركين، ولا بالنصيحة أن تستنبط من الكاشحين (٣)، ولا يضيرالحسناء أطمارها، ولا بنات الأصداف أصدافها، ولا الذهبَ الإبريزَ مخرجُه من كِبا، ومن ترك أخذ الحسن من موضع أضاع الفرصة، والفرص تمر مر السحاب".
ويقول النووى أيضًا فى التقريب: " وليحذر كل الحذر من أن يمنعه الحياء والكبر من السعى التام فى التحصيل وأخذ العلم ممن دونه فى نسبٍ أو سنٍ أو غيره ".
" واللهَ أسألُ أن يُلقيَ على هذه الوريقات قبولًا من القُلوبِ ويرزُقَها مَيلًا منَ النفوسِ وإنصاتا
من الأسماعِ، وتَسييرًا في البلادِ وأن يستنطقَ ألسنةَ من طرأتْ عليه من أفاضل المسلمين بالدعوةِ
_________
(١) ادب الخواص للوزير المغربى
(٢) قال الليث: الوَكَعُ مَيَلانٌ في صَدْر القدَم نحو الخِنْصِر وربما كان في إِبهام اليد وأَكثر ما يكون ذلك للإِماء اللواتي يَكْددْنَ في العمَل .. (اللسان)
(٣) والكاشِح: الذي يطوي على العداوة كَشْحَه، وقيل: الكاشح الذي يتباعد عنك.
1 / 5
الطّيبةِ لمُنشئها، والتَرحمِ على جامعها والله تعالى مرَجوّ الإجابةْ. لمنْ يسألهُ منْ أهل الإنابةْ."
الباب الأول
مباحث مهمة بين يدى الكتاب
المبحث الأول: الإسناد وقيمته فى الإسلام
المبحث الثاني: بعض أخلاق طالب العلم
المبحث الثالث: ترجمة البخارى ﵀
المبحث الرابع: الثلاثيات بترتيبها فى صحيح البخارى
المبحث الخامس: السند الذي وصلت لنا به الثلاثيات.
المبحث السادس: المؤلفات حول الثلاثيات
تمهيد
وكانت هذه المباحث فى هذا الباب بين يدى الشرح تمهيدًا وتوطئةً بين يديه، لتتأهل النفس وتستعد لما يتلى عليها، انطلاقًا من قول ابن الجوزى فى صيد الخاطر: " إنما الصواب توطئة المضجع قبل النوم ".
ثم إنه كان ولا بد أن نقدم بين يدى هذا الشرح كلامًا عن قيمة الإسناد فى الإسلام، ومدى اهتمام أهل العلم بذلك، وتوخيهم الصحة والضبط لأن الأمر أمر دين، فكان المبحث الأول: " قيمة الإسناد فى الإسلام ".
وأيضا توجيه بعض النصائح التربوية لى ولطلبة العلم، فكان المبحث الثانى: " بعض آداب طالب العلم ".
ثم ترجمة لإمامنا وفقيه هذه الأمة ومحدثها الإمام البخارى ﵀، فكان مبحث: " ترجمة البخارى".
ثم لما كان الشرح لم يرتبط بترتيب البخارى رأيت أن أسرد هذه الأحاديث سردا بترتيبها فى صحيح البخارى وكما قُرِئت على المشايخ، ثم أردفتها بذكر السند الذى وصلت لنا الثلاثيات به.
ثم لتتم الفائدة فكان من الواجب ذكر المؤلفات حول هذا الموضوع والتى صنفها أهل العلم، ليقف عليها من يريد الاستزادة ومعظم هذه الشروح وللأسف مازالت مخطوطة ولم تخرج للنور، قيد الله لها من يخرجها.
والله من وراء القصد، ونسأله أن يرزقنا الإخلاص فى القول والعمل، وما قل وكفي خير مما أكثر وألهى.
المبحث الأول
قيمة الإسناد فى الإسلام
مدى الاهتمام بمعرفة الرواة:
1 / 6
نقل مسلم فى مقدمة صحيحه (١) جملة من كلام أهل العلم بسنده عن قيمة الإسناد والنهى عن الرواية عن الضعفاء، وكذلك ابن عبد البر فى بداية التمهيد (٢) كثيرًا من ذلك عن الصحابة والتابعين حول قيمة هذا الأمر، ومدى الإهتمام به، ومن ذلك:
* قال أبو هريرة: " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه "
* وعن شعيب بن الحبحاب قال غدوت إلى أنس بن مالك، فقال:
يا شعيب ما غدا بك؟ فقلت: يا أبا حمزة غدوت لأتعلم منك، وألتمس ما ينفعني فقال يا شعيب: إن هذا العلم دين فانظر ممن تأخذه.
وقال النووي فى التقريب: " الإسناد خصيصة لهذه الأمة، وسنة بالغة مؤكدة "
وعن عامر بن سعد أن عقبة بن نافع قال لبنيه، وثبت أيضًا عن صهيب:
" يا بَنيَِّ لا تقبلوا الحديث عن رسول الله ﷺ إلا من ثقة "
* وقال ابن عون: لا تأخذوا العلم إلا ممن شهد له بالطلب.
* وعن ابن سيرين قال: إنما هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه.
* وعن سليمان بن موسى قال: لا يؤخذ العلم من صُحُفِي.
* وعن المغيرة عن إبراهيم قال: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
قال المغيرة: " كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى سمته وصلاته ".
* وقد روى جماعة عن هُشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال:
" كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى هديه وسمته وصلاته ثم أخذوا عنه ".
* وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: سألت شعبة وابن المبارك والثوري ومالك بن أنس عن الرجل يتهم بالكذب فقالوا: انشره فانه دين.
* وعن حماد بن زيد أنه قال:
كلمنا شعبة في أن يكف عن أبان ابن أبي عياش لسِنِّهِ وأهل بيته، فقال لي:
" يا أبا إسماعيل لا يحل الكف عنه لأن الأمر دين ".
_________
(١) مقدمة مسلم، ٦٩: ١١٤
(٢) التمهيد، حـ١ (٤٥، .....)
1 / 7
* وعن الربيع بن خثيم قال: " من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير " عشر مرات، كان له كعتق رقاب أو رقبة، قال الشعبي: فقلت للربيع بن خثيم: من حدثك بهذا الحديث فقال عمرو بن ميمون الأودى فلقيت عمرو بن ميمون فقلت من حدثك بهذا الحديث فقال عبد الرحمن بن أبي ليلى فلقيت ابن أبي ليلى فقلت من حدثك؟
قال أبو أيوب الأنصاري؛ صاحب رسول الله ﷺ. فعلى هذا كان الناس على البحث عن الإسناد وما زال الناس يرسلون الأحاديث ولكن النفسَ أسكنُ عند الإسناد وأشدُ طمأنينة.
* وعن نصر بن حماد يعني الوراق قال: كنا قعودا على باب شعبة نتذاكر الحديث فقلت: حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني قال:
1 / 8
" كنا نتناوب رعية الإبل على عهد رسول الله ﷺ فجئت ذات يوم والنبي ﷺ حوله أصحابه فسمعته يقول: من توضأ ثم صلى ركعتين ثم استغفر الله غفر له. قلت: بخ بخ قال فجذبني رجل من خلف، فالتفت، فإذا عمر بن الخطاب فقال ما لك تبخبخ؟! فقلت عجبا بها، قال: لو سمعت التي قبلها كانت أعجب وأعجب، قلت: وما قال؟ قال: قال ﷺ " من شهد أن لا اله إلا الله وان محمدا رسول الله قيل له ادخل من أي أبواب الجنة شئت " قال: قال نصر: فخرج علينا شعبةُ فلطمني ثم رجع، فدخل، قال: فتنحيت ناحية أبكي، ثم خرج، فقال: ما له بعدُ يبكي؟! فقال له عبد الله بن إدريس: " إنك أسأت إليه " قال: انظر ما يُحَدِّث به عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ، أنا قلت لأبي إسحاق من حدثك؟ قال: حدثنا عبد الله بن عطاء عن عقبة بن عامر عن النبي ﷺ، فقلت لأبي إسحاق: أو سمع عبد الله من عقبة؟! قال فغضب، ومسعر بن كدام حاضر، فقال لي مسعر: أغضبت الشيخ، فقلت: ليصححن هذا الحديث أو لأرمين بحديثه، فقال لي مسعر: " هذا عبد الله بن عطاء بمكة"، قال شعبة: فرحلت إلى مكة لم أرد الحج أردت الحديث، فلقيت عبد الله بن عطاء فسألته فقال: سعد بن إبراهيم حدثني، قال شعبة: فلقيت مالك بن أنس فسألته عن سعد فقال: سعد بن إبراهيم بالمدينة لم يحج العام، فرحلت إلى المدينة، فلقيت سعد بن إبراهيم بالمدينة فسألته، فقال: الحديث من عندكم؛ حدثني زياد بن مخراق، قال شعبة: فلما ذكر زياد بن مخراق قلت: أي شيء هذا! بينما هو كوفي إذ صار مدنيا إذ صار بصريا، قال شعبة فرحلت إلى البصرة فلقيت زياد بن مخراق فسألته، فقال: ليس الحديث من بانتك (كذا) فقلت حدثني به، قال: لا ترده، قلت: حدثني به، قال: حدثني شهر بن حوشب، قلت ومن لي بهذا الحديث لو صح لي مثل هذا عن رسول الله
1 / 9
ﷺ كان أحب إليَّ من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين "
طلب السند العالى
للسند العالى قيمةٌ عظيمةٌ عند العلماء، فقد كانوا يبحثون عنه ويحرصون عليه ويسافرون من أجله.
قال النووى فى التقريب: " وطلب العلو فيه سنة، ولهذا استُحبَّت الرحلة "
وقال السيوطى فى التدريب (١): قال أحمد بن حنبل: طلب الإسناد العالي سنة عمن سلف لأن أصحاب عبد الله كانوا يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعون منه ".
وقال محمد بن أسلم الطوسي: " قرب الإسناد قُربُ -أو قربةٌ- إلى الله ".
وقال العلائى: " لا ريب في اتفاق أئمة الحديث قديما وحديثا على الرحلة إلى من عنده الإسناد العالي".وقد ذموا النزول فى الإسناد، فقال ابن المدينى: " النزول شؤم ".
وقال ابن معين: " الإسناد النازل قرحةٌ فى الوجه ".
ولكن السند العالى يجب أن يكون عن الرجال العدول، فإن روى الحديث بعلوٍ عن جاهلٍ أوضعيف فليس بعالٍ، أما أن يروى نفس الحديث بنزول ورجاله ثقات فهو العالى.
لذلك قال ابن المبارك: " ليس جودة الحديث قُرْْبَ الإسناد، بل جودة الحديث صحة الرجال"
وقال السِّلفي (٢): " الأصل الأخذ عن العلماء فنزولهم أولى من العلو عن الجهلة على مذهب المحققين من النقلة، والنازل حينئذ هو العالي في المعنى عند النظر والتحقيق، قال ابن الصلاح ليس هذا من قبيل العلو المتعارف إطلاقه بين أهل الحديث وإنما هو علو من حيث المعنى ".ا. هـ
وقال بعضهم فى ذلك (٣): ان النزول اذا ما كان عن ثبت ... اعلى لكم من علو غير ذي ثبت
وقد جمعت ثلاثيات البخارى هذه بين قرب الإسناد وجودة الرجال.
أمثلة من رحلاتهم.
الرحلة كانت المصدر الوحيد فى الحصول على العلم، حتى أن بعض أهل العلم كان لا يعُد الذى لا رحلة له من العلماء.
_________
(١) تدريب الراوى، ٣٨٧
(٢) السابق، ٣٨٧
(٣) الجامع لأخلاق الراوى والسامع، حـ١، ١٢٤
1 / 10
وسأل عبدُ الله بن أحمد أباه عمن طلب العلم: ترى له أن يلزم رجلًا عنده علم فيكتب عنه أو ترى له أن يرحل إلى المواضع التي فيها العلم فيسمع منهم؟ قال يرحل يكتب عن الكوفيين والبصريين وأهل المدينة ومكة، يسأم الناس لسماعه منهم.
ومن الرحلات ما يلى:
فى عهد الأنبياء:
ومن أشهر ذلك فى القرآن رحلة موسى للخضر ﵉ فقد ذكر لنا القرآن الكريم هذه القصة بطولها، لنعلم أن الكل يحتاج إلى التعلم حتى الأنبياء أنفسهم.
فى عهد الصحابة:
ومن أشهرها أيضًا وهي العمدة فى هذا الباب، رحلة جابر بن عبد الله إلى عبد الله بن أنيس.
قال: بلغني حديث عن رسول الله ﷺ لم أسمعه، فابتعت بعيرًا، فشددت عليه رحلي وسرت شهرًا حتى قدمت الشام، فأتيت عبدَ الله بن أنيس فقلت للبواب: قل له جابر على الباب، فأتاه، فقال له: جابر بن عبد الله؟ فأتاني، فقال لي: جابر؟ فقلت: نعم، فرجع فأخبره فقام يطأطئ ثوبه حتى لقيني فاعتنقني واعتنقته، فقلت حديث بلغني عنك سمعتَه من رسول الله ﷺ في القصاص لم أسمعه، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن اسمعه فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول: " يحشر الله العباد أو قال الناس عراة غرلا بُهما "، قلنا: ما بهما؟ قال ليس معهم شيء، ثم يناديهم ربهم بصوت يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قرب: " أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولا
أحد من أهل النار عنده مظلمة حتى أقصه منه حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عراة غرلا بهما؟ قال: بالحسنات والسيئات.
وفى عهود السلف:
نقل ابن عبد البر (١) بعض كلام أهل العلم فى ذلك فقال: قال سعيد بن المسيب: " إن كنت لأسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد ".
_________
(١) جامع بيان العلم وفضله - ١٤١،١٤٢
1 / 11
وعن صالح ابن صالح الهمدانى قال: حدثنا الشعبي بحديث ثم قال لي: أعطيتكه بغير شيء وإن كان الراكب ليركب إلى المدينة فيما دونه.
وعن بسر بن عبيد الله الحضرمي قال: " إن كنت لأركب إلى المصر من الأمصار في الحديث الواحد لأسمعه ".
وقال الشعبي: لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن ليسمع كلمة حكمة ما رأيت
سفره ضاع " ا. هـ
رحلة يوسف الشيرازى وأبو الوقت (١):
قال يوسف بن أحمد الشيرازي في " أربعين البلدان " له:
لما رحلت إلى شيخنا رحلة الدنيا ومسند العصر أبي الوقت، قدر الله لي الوصول إليه في آخر
بلاد كرمان، فسلمت عليه، وقبلته، وجلست بين يديه، فقال لي: ما أقدمك هذه البلاد؟ قلت: كان قصدي إليك، ومعولي بعد الله عليك، وقد كتبت ما وقع إليّ من حديثك بقلمي، وسعيت إليك بقدمي، لأدرك بركة أنفاسك، وأحظى بعلو إسنادك.
فقال: وفقك الله وإيانا لمرضاته، وجعل سعينا له، وقصدنا إليه، لو كنت عرفتني حق معرفتي، لما سلمت علي، ولا جلست بين يدي، ثم بكى بكاءً طويلًا، وأبكى من حضره، ثم قال: اللهم استرنا بسترك الجميل، واجعل تحت الستر ما ترضى به عنا، يا ولدي، تعلم أني رحلت أيضا لسماع " الصحيح " ماشيا مع والدي من هراة إلى الداوودي ببوشنج ولي دون عشر سنين، فكان والدي يضع على يدي حجرين، ويقول: احملهما.
فكنت من خوفه أحفظهما بيدي، وأمشي وهو يتأملني، فإذا رآني قد عييت أمرني أن ألقي حجرًا واحدا، فألقي، ويخف عني، فأمشي إلى أن يتبين له تعبي، فيقول لي: هل عييت؟ فأخافه، وأقول: لا. فيقول: لم تقصر في المشي؟ فأسرع بين يديه ساعة، ثم أعجز، فيأخذ الآخر، فيلقيه، فأمشي حتى أعطب، فحينئذ كان يأخذني ويحملني، وكنا نلتقي جماعة الفلاحين وغيرهم، فيقولون: يا شيخ عيس ادفع إلينا هذا الطفل نركبه وإياك إلى بوشنج، فيقول:
_________
(١) سيرأعلام النبلاء، حـ ١٥، ١٠٣
1 / 12
" معاذ الله أن نركب في طلب أحاديث رسول الله ﷺ بل نمشي، وإذا عجز أركبته على رأسي إجلالًا لحديث رسول الله ﷺ ورجاء ثوابه.
فكان ثمرة ذلك من حسن نيته أني انتفعت بسماع هذا الكتاب وغيره، ولم يبق من أقراني أحد سواي حتى صارت الوفود ترحل إلي من الأمصار.
ومن الأمثلة ما ذُكر سابقًا عن رحلة شعبة بن الحجاج فى حديث الوضوء، فيا لها من همم، ويا لهم من رجال استخدمهم ربهم لحمل هذه الأمانة فرحمة الله على الجميع.
قيمة الإسناد فى الدين (١):
قال رسول الله ﷺ: " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين " (٢).
وروى الحاكم وغيره عن مطر الوراق فى قوله تعالى: " أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" قال: إسناد الحديث.
قال سفيان بن عيينة (٣): " حدث الزهرى يومًا بحديث، فقلت: هاته بلا إسناد، فقال الزهرى:
" أترقى السطح بلا سلم ".
* وعن الحسين بن الحسن المروزي قال سمعت ابن المبارك يقول:
" لولا الإسناد لقال كل من شاء ما شاء ولكن إذا قيل له عن مَن بقي ".
* وعن أحمد بن حنبل يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: الإسناد من الدين ".
* قال يحيى وسمعت شعبة يقول: " إنما يعلم صحة الحديث بصحة الإسناد ".
* والأوزاعي قال: " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد ".
* وقال ابن عون: كان الحسن يحدثنا بأحاديث لو كان يسندها كان أحب إلينا.
وقال السيوطى فى التدريب (٤): " قال ابن حزمٍ: نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي ﷺ مع الإتصال
_________
(١) ١ التمهيد، حـ١، ٥٧
(٢) رواه البيهقىُّ، وصححه الألبانى كما فى مشكاة المصابيح (رقم ٢٤٨)
(٣) تدريب الراوى، ٣٧٨
(٤) السابق، ٣٧٧
1 / 13
خص الله به المسلمين دون سائر الملل، وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود، لكن لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد ﷺ بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أكثر من ثلاثين عصرا، وإنما يبلغون إلى شمعون ونحوه.
قال: وأما النصاري فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق فقط وأما النقل بالطريق
المشتملة على كذاب أو مجهول العين فكثير في نقل اليهود والنصارى، قال: وأما أقوال الصحابة والتابعين فلا يمكن اليهود أن يبلغوا إلى صاحب نبىٍّ أصلًا، ولا إلى تابع له، ولا يمكن النصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون وبولص " ا. هـ
حراسة حدود السنة (١)
* قال عبد الرحمن بن مهدي لابن المبارك أما تخشى على هذا الحديث أن يفسدوه؟ قال: " كلا فأين جهابذته ".
* وعن عبدة بن سليمان المروزي قال: قلت لابن المبارك: أما تخشى على العلم أن يجيء المبتدع فيزيد في الحديث ما ليس منه؟ قال: لا أخشى هذا بعيش الجهابذة النقاد.
المبحث الثانى
بعض أخلاق طالب العلم
طالب العلم ليس كغيره من الناس لذلك كان لابد له مع نفسه وقفات، يزكيها ويطهرها لتتأهل لهذا النور الذى ستسعى فيه فى الدنيا والآخرة، ويستضيء به الفئام من الناس، وقد أكثر أهل العلم عن الحديث فى هذا الجانب المهم، ومنهم من أفرد فيه مؤلفات، لذلك فقد أحببت أن أُذَِّكِّر ببعض ما ذكره أهل العلم من هذه الأخلاقيات، وليس كل الأخلاقيات، وكان ذلك لأنى رأيت أن هذا الشرح سيقع فى يد من يُرجى منهم الخير، ويكونوا أسوةً لمن بعدهم، فأردت أن لا أحرم نفسى من التذكير بهذا الشأن من منطلق قول الله تعالى " وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ "
(الذاريات، ٥٥) ونرجوا من الله القبول والثواب والهداية ..
***********
وأول ما يحتاج إليه طالب العلم وغيره ونفتقده فى هذه الأيام هو:
الأدب:
_________
(١) التمهيد، حـ١، ٦٠
1 / 14
فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال:"إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها ".
وقال الحسن: "إن كان الرجل ليخرج في أدب واحدٍ السنةَ والسنتين".
وقال الإمام مالك ﵀: كانت أمي تعممني وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل
علمه.
وقد أشرف الليث بن سعد على بعض أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا كرهه فقال: ما هذا؟! أنتم إلى يسير من الأدب، أحوج منكم إلى كثير من العلم!
وقال سفيان الثوري: "كانوا لايخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة "
وقال ابن المبارك: "طلبت الأدب ثلاثين سنة، وطلبت العلم عشرين سنة، وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم".
وقال أيضا: "كاد الأدب أن يكون ثلثي العلم".
وفى وصية عبد الملك بن مروان لمؤدب أبنائه، كى يؤدبهم عيها قال: " واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب ".
وقال الخطيب البغدادى (١): " والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدبًا وأشد الخَلْق تواضعًا وأعظمهم نزاهة وتدينًا وأقلهم طيشًا وغضبًا، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله ﷺ وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ويصدفوا عن أرذلها وأدونها ". ثم روى عن أبي عاصم أنه قال: " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا فيجب أن يكون خير الناس".
وقال أبو عبد الله البوشنجى (٢): من أراد العلم والفقه بغير أدب فقد اقتحم أن يكذب على الله ورسوله.
وقال أبو عبيد بن سلام (٣): " مادققت على محدثٍ بابه قط، لقول الله تعالى: " " وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا "
وقال ابو زكريا العنبري (٤):
_________
(١) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، ١/ ٧٨
(٢) تهذيب الكمال، حـ١٥ (ترجمة البوشنجى)
(٣) تدريب الراوى للخطيب، ٣٦٦
(٤) تدريب الراوى للخطيب، حـ١، ٨٠
1 / 15
" علم بلا أدب كنار بلا حطب وأدب بلا علم كروح بلا جسم، وانما شبهت العلم بالنار لما روينا عن سفيان بن عيينة انه قال: ما وجدت للعلم شبها الا النار نقتبس منها ولا ننتقص عنها. "
وقال شيخنا الشيخ الحوينى معلقًا على هذه الرواية فى شرحه لكتاب العلم من صحيح البخارى:
" وهذا معناه: أن الأدب هو وقود العلم، ومعناه أيضًا: أن العلم لا يصل إلا بأدب. وخلاصة الكلام: العلم لا يصل إلا بحكمة." وقال مرةً: " وهذا يعني أن المرء إذا كان خلوًا من الأدب فلا ينتفع في نفسه بعلمه، ولا ينفع غيره."
وقال الشيخ سلمان العودة معلقًا على هذا الأثر: " علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله
أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا. وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري ﵀ تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال له الحسن البصري: " وهل رأيت فقيهًا قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهًا في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه ﵎ "، فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقًا لهذا الفهم." ا-هـ
وقال أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري أنشدنا أبو حاتم سهل بن محمد (١):
إن الجواهر درها ونضارها ... هن الفدى لجواهر الآداب
فإذا كثرت أو ادخرت ذخيرة تسمو بزينتها على الأصحاب
_________
(١) أدب الاملاء والاستملاء، للسمعانى، حـ١، ٢
1 / 16
فعليك بالأدب المزين أهله كيما تفوز ببهجة وثواب
* ومن جملة الآداب ما ذكره عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده قال:
" علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، واحملهم على الأخلاق الجميلة، وروهم الشعر يشجعوا
وينجدوا، وجالس بهم أشراف الناس وأهل العلم منهم، فإنهم أحسن الناس رِعَة (١)، وأحسنهم
أدبا، وجنبهم السفلة والخدم، فإنهم أسوأ الناس رِعَة وأسوأهم أدبا، ومرهم فليستاكوا عرضا، وليمصوا الماء مصا، ولا يعبوه عبا، ووقرهم في العلانية، وذللهم في السر، واضربهم على الكذب، إذ الكذب يدعو إلى الفجور، والفجور يدعو إلى النار، وجنبهم شتم أعراض الرجال، فإن الحر لا يجد من عرضه عوضا، وإذا ولوا أمرا فامنعهم من ضرب الأبشار، فإنه عار باق، ووتر مطلوب، واحملهم على صلة الأرحام، واعلم أن الأدب أولى بالغلام من النسب ".
ثانيًا: إجلال المشايخ والأقران والتواضع لهم:
عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: " ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه " (٢)
ويقول النووى فى التقريب: " وينبغى أن يعظم شيخه ومن يسمع منه، فذلك من إجلال العلم وأسباب الانتفاع، ويعتقد جلالة شيخه ورجحانه ويتحرى رضاه "
ومن أشهر ما يروى فى ذلك ما ذكره ابن عباس ﵁ عن نفسه قال:
" وجدت عامة علم رسول الله ﷺ عند هذا الحي من الأنصار فإن كنت لآتي باب أحدهم فأقيل ببابه ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأذن لي لقرابتي من رسول الله ﷺ ولكن كنت أبتغي بذلك طيب نفسه".
_________
(١) ورُعَ ورُوعًا ووراعة وتَوَرَّعَ والاسم الرِّعةُ، ويقال فلان سَيءُ الرِّعةِ أَي قليل الورَعِ، وقال الأَصمعي: الرِّعةُ الهَدْيُ وحُسْنُ الهيئةِ أَو سُوء الهيئة. (اللسان، حـ٨،٣٨٨)
(٢) رواه الإمام أحمد بسند حسن، وحسنه الألبانىُّ فى صحيح الترغيب
1 / 17
وما قاله أبو عبيد سابقًا هو من اٌلإجلال أيضا، قال: " ما دققت على محدثٍ بابه قط " فيا له من
أدب.
وقال أبو الحسين ابن العالى (١): سمعت منصور بن العباس يقول: صح عندى أن اليوم الذى
توفى فيه أبو عبد الله البوشنجى بنيسابور، سُئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن مسألة، وكان شيع جنازته، فقال: لا أفتى حتى نواريه لحده.
وذكر الذهبىُّ (٢): أن أبا عبد الله البوشنجىِّ دخل علي أصحاب داود بن علىِّ يوما، وجلس في أخريات الناس، ثم إنه تكلم مع داود، فأعجب به، وقال: لعلك أبو عبد الله البوشنجي؟ قال: نعم فقام إليه، وأجلسه إلى جنبه، وقال: " قد حضركم من يفيد ولا يستفيد ".
وقال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة الحسين القباني، فصلى بنا عليه أبو عبد الله البوشنجي، فلما أرادوا الانصراف، قدمت دابة أبي عبد الله البوشنجىِّ، وأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وأخذ إمام الأئمة بركابه، وأبو بكر الجارودي، وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فلم يمنع واحدا منهم، ومضى. ا. هـ
وسئل عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبي بكر بن خزيمة، فقال:
" ويحكم! هو يُسأل عنا، ولا نُسأل عنه! هو إمام يقتدى به ".
ثالثًا: الإعتراف بعدم إحاطته بطرق العلم كلها، وعدم انتقاص الآخرين بمثل ذلك:
قال ابن عبد البر فى التمهيد (٣):- مدافعًا عن العلماء الذين وقع لهم بعض الأخطاء فى العلم -
_________
(١) تهذيب الكمال، حـ١٥، ترجمة البوشنجى (٥٠٢٥)
(٢) السير، حـ ١٠، ٥٤٩ (ترجمة البوشنجى)
(٣) التمهيد، ابن عبد البر، حـ٨، ٦٩
1 / 18
" وأخبار الآحاد عند العلماء من علم الخاصة لا ينكر على أحد جهل بعضها والإحاطة بها ممتنعة، وما أعلم أحدا من أئمة الأمصار مع بحثهم وجمعهم إلا وقد فاته شيء من السنن المروية من طريق الآحاد وحسبك بعمر بن الخطاب فقد فاته من هذا الضرب أحاديث فيها سنن ذوات عدد من رواية مالك في الموطأ، ومن رواية غيره أيضا، وليس ذلك بضار له ولا ناقص من منزلته، وكذلك سائر الأئمة لا يقدح في أمانتهم ما فاتهم من إحصاء السنن إذ ذاك يسير في جنب كثير ولو لم يجز للعالم أن يفتي ولا أن يتكلم في العلم حتى يحيط بجميع السنن ما جاز ذلك لأحد أبدا، وإذا علم العالم أعظم السنن وكان ذا فهم ومعرفة بالقرآن واختلاف من قبله من العلماء جاز له القول بالفتوى .. وبالله التوفيق.
وقيل للإمام مالك: العالم يخطىء. فقال: الذي دل عليه من الخير أكثر، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟! ولو لم يأمر بالمعروف إلا من ليس فيه شيء ما أمر أحدًا.
رابعًا: الدفاع والذب عن العلماء:
فى " الميزان ": قال ابن معين: وجدت بخط مروان بن معاوية الفزارى - شيخ الإمام أحمد، وابن معين- " وكيع رافضى "، فقلت له: وكيع خير منك، فسبني.
وليكن حاديك فى ذلك دائمًا، قول الشاعر:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا ما اجتمعنا في المجالس للفخر
خامسًا: الاهتمام والتصحيح وعدم اللحن:
قال ابن كثير ﵀ " ينبغى لطالب الحديث أن يكون عارفًا بالعربية.
وقال الأصمعى: " أخشى عليه إذا لم يعرف العربية أن يدخل فى قوله: " من كذب علىّ متعمدًا
فليتبوأ مقعده من النار"
" وعن عياش بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: " جاء الدَّراورْدِى - يعنى عبد العزيز بن محمد - إلى أبى يعرض عليه الحديث، فجعل يقرأ ويلحن لحنًا منكرًا فقال له أبى: ويحك يا دراوردى أنت كنت بإقامة لسانك قبل هذا الشأن أحرى ". (١)
_________
(١) مراتب طلب العلم وطرق تحصيله، للشيخ رسلان، ١٠٩
1 / 19
وعن حاجب بن سليمان قال: " سمعت وكيعًا يقول أتيت الأعمش أسمع منه الحديث، وكنت ربمالحنتُ، فقال لى: يا أبا سفيان تركت ما هو أولى بك من الحديث فقلت: يا أبا محمد، وأي شيء أولى بى من الحديث؟ فقال النحو. فأملى علىَّ الأعمشُ النحوَ، ثم أملى علىَّ الحديث." (١)
سادسًا: العمل بالعلم وعدم كتمانه:
إذا ما لم يفدْك العلمُ خيرا ... فخير منه أن لو قد جهلتا
وإن ألقاك فهمُك في مهاو ... فليتك ثم ليتك ما فهمتا
أما عن العمل بالعلم فقد قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ " والمعنى كما قال السعدى ﵀ بتصرف- اعملوا بمقتضى علمكم، يعطكم علما وهدى ونورا تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات.
وعن أبى برزة كما فى صحيح الترغيب والترهيب (٢) قال: قال رسول الله ﷺ: " مثل الذى يعلم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضئ على الناس وتحرق نفسها ".
وقال أبو الدرداء ﵁: " ويلٌ لمن لا يعلم ولا يعمل مرة وويلٌ لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات "
وقال بشر الحافي: " يا أصحاب الحديث أدوا زكاة هذا الحديث اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث "
وقال عمرو بن قيس الملائي: " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله "
وقال وكيع: " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به "
وقال إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع: " كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به "
وقال أحمد بن حنبل: " ما كتبت حديثا إلا وقد عملت به حتى مر بي أن النبي ﷺ احتجم وأعطى أبا شيبة دينارًا فاحتجمت وأعطيت الحجام دينارا ".
_________
(١) مراتب طلب العلم وطرق تحصيله، ١٠٩
(٢) (صحيح لغيره) كتاب العلم، باب الترهيب من أن يعلم ولا يعمل بعلمه ويقول ولا يفعله / ١٣٠
1 / 20