[المجلد الاول]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو، وحده لا شريك له، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وأنزل عليه كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. اللهم صل وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.
وبعد: فإن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على قلب نبيه محمد ﷺ، ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولينقذهم من الكفر والظلم والفجور. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «١» .
وقد أنزل الله- تعالى- هذا القرآن على قلب نبيه ﷺ، لمقاصد عالية، وحكم سامية، وأغراض شريفة ...
من أهمها أن يكون هذا القرآن هداية للإنس وللجن في كل زمان ومكان إلى الصراط المستقيم، وإلى السعادة التي تصبو إليها النفوس، وتتطلع إليها الأفئدة والقلوب ...
وقد أودع- تعالى- في هذا الكتاب من العقائد السليمة، والعبادات القويمة، والأحكام الجليلة، والآداب الفاضلة، والعظات البليغة، والتوجيهات الحكيمة ... ما به قوام الملة الكاملة، والأمة الفاضلة، والجماعة الراشدة، والفرد السليم في عقيدته وسلوكه وفي كل شئونه.
فكان هذا الكتاب أفضل الكتب السماوية، وأوفاها بحاجة البشرية، وأجمعها للخير، وأبقاها على الدهر، وأعمها وأتمها وأصحها في هدايته الناس إلى ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم.
_________
(١) سورة إبراهيم: الآية ١.
1 / 5
قال- تعالى-: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا «١» .
وقال تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ، وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٢» .
وقال- تعالى- قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَدًا «٣» .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله تعالى على نبيه ﷺ هذا القرآن، أن يكون هذا القرآن معجزة ناطقة في فم الدنيا بصدقه فيما يبلغه عن ربه.
ولقد جاء النبي ﷺ إلى الناس فدعاهم إلى وحدانية الله، وإلى مكارم الأخلاق، وقال لهم: معجزتي الدالة على صدقى هذا القرآن، فإن كنتم في شك من ذلك فأتوا بمثله فعجزوا، فأرخى لهم العنان وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور من مثله فما استطاعوا، فزاد في إرخاء العنان لهم- وهم أرباب البلاغة والبيان- وتحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله، فأخرسوا وانقلبوا صاغرين. فثبت أن هذا القرآن من عند الله، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
قال الله تعالى-: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ «٤» .
كذلك من أهم المقاصد التي من أجلها أنزل الله هذا القرآن على قلب نبيه ﷺ أن يتقرب الناس به إلى خالقهم عن طريق تلاوته، وحفظه، وتدبره، والعمل بتشريعاته وآدابه وتوجيهاته ...
ولقد تكلم الإمام القرطبي بإسهاب في مقدمة تفسيره عن فضائل القرآن، والترغيب فيه، وفضل طالبه، وقارئه، ومستمعه، والعامل به، وكيفية تلاوته ... فقال ما ملخصه:
اعلم أن هذا الباب واسع كبير. ألف فيه العلماء كتبا كثيرة، نذكر من ذلك نكتا تدل على فضله، وما أعد الله لأهله إذا أخلصوا الطلب لوجهه، وعملوا به. فأول ذلك أن يستشعر المؤمن من فضل القرآن أنه كلام رب العالمين. كلام من ليس كمثله شيء....
_________
(١) سورة الإسراء. الآية ٩.
(٢) سورة المائدة: الآيتان ١٥، ١٦.
(٣) سورة الجن: الآيتان ١، ٢.
(٤) سورة البقرة: الآيتان ٢٣، ٢٤.
1 / 6
ومن الآثار التي جاءت في هذا الباب ما أخرجه الترمذي عن أبى سعيد قال: قال رسول الله ﷺ يقول الله تعالى: «من شغله القرآن وذكرى عن مسألتى، أعطيته أفضل ما أعطى السائلين..» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ...» .
وروى البخاري عن عثمان بن عفان عن النبي ﷺ قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، وروى مسلّم عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة «١» ريحها طيب وطعمها طيب. ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو. ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر. ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة لا ريح لها وطعمها مر» .
وروى مسلّم عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه- أى يقرؤه بصعوبة- وهو عليه شاق له أجران» .
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» «٢» .
هذا جانب من الأحاديث الشريفة التي أوردها القرطبي، وهو يتحدث عن فضائل القرآن، والترغيب فيه ... إلخ.
ولقد حذر النبي ﷺ: أمته تحذيرا شديدا من نسيان القرآن، فقد روى الشيخان عن أبى موسى عن النبي ﷺ قال: «تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا- أى:
تفلتا- من الإبل في عقلها» .
وروى الترمذي وأبو داود عن أنس بن مالك عن النبي ﷺ قال: «عرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها» .
هذه أهم المقاصد والحكم التي من أجلها أنزل الله- تعالى- القرآن على نبيه ﷺ: أن
_________
(١) الأترجة: ثمرة حلوة الطعم، طيبة الرائحة، جميلة اللون، تشبه التفاحة.
(٢) تفسير القرطبي: ح ١ ص ٤ وما بعدها.
1 / 7
يكون هداية للناس، وأن يكون معجزة خالدة باقية شاهدة بصدق الرسول ﷺ: فيما يبلغه عن ربه، وأن يتقرب الناس بقراءته والعمل به إلى خالقهم- ﷿ ولقد تكفل الله- تعالى- بحفظ هذا القرآن، وصانه من التحريف والتبديل، والتغيير والمعارضة. قال- تعالى-: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «١» .
وكان من مظاهر عنايته- سبحانه- بكتابه، أن جعله محفوظا في كل العصور بالتواتر الصادق القاطع، يرويه الخلف عن السلف بالكيفية المروية عن رسول الله ﷺ، وأن وفق له في كل عصر حفاظا متقنين جمعوه في صدورهم، وعمروا به ليلهم ونهارهم ...
وأن قيض له رجالا قضوا معظم أيام حياتهم في خدمته ودراسة علومه، فمنهم من كتب في إعجازه وبلاغته، ومنهم من كتب في قصصه وأخباره، ومنهم من كتب في أسباب نزوله، ومنهم من كتب في قراءته ورسمه، ومنهم من كتب في محكمه ومتشابهه، ومنهم من كتب في ناسخه ومنسوخه، ومنهم من كتب في مكية ومدنية، ومنهم من كتب في غريب ألفاظه..... إلى غير ذلك من ألوان علومه.
وكثير منهم كتبوا في تفسيره. وتوضيح معانيه ومقاصده وألفاظه، وذلك لأن سعادة الأفراد والأمم لا تتأتى إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن وتوجيهاته، وهذا الاسترشاد لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان، لما تدل عليه ألفاظ القرآن. وهو ما يسمى بعلم التفسير.
فتفسير القرآن هو المفتاح الذي يكشف عن تلك الهدايات السامية، والتوجيهات النافعة، والعظات الشافية والكنوز الثمينة التي احتواها هذا الكتاب الكريم.
وبدون تفسير القرآن، تفسيرا علميا سليما مستنيرا لا يمكن الوصول إلى ما اشتمل عليه هذا الكتاب من هدايات وتوجيهات، مهما قرأه القارئون وردد ألفاظه المرددون.
قال إياس بن معاوية: مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من مليكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم روعة ولا يدرون ما في الكتاب. ومثل الذي يعرف التفسير كمثل رجل جاءهم بمصباح فقرأوا ما في الكتاب» «٢» .
ولقد أفاض الامام ابن كثير في بيان هذا المعنى «وفي بيان أحسن طرق التفسير فقال:
«فالواجب على العلماء الكشف عن معاني كلام الله، وتفسير ذلك، وطلبه من مظانه، وتعلم ذلك وتعليمه....
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب: إن أصح الطريق في ذلك أن يفسر
_________
(١) سورة الحجر. الآية ٩.
(٢) تفسير القرطبي ح ١ ص ٢٦.
1 / 8
القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له.... وقد قال رسول الله ﷺ: «ألا إنى أوتيت القرآن ومثله معه»، يعنى السنة ...
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة.... فإن لم تجده فمن أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم كالخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين المهديين ... قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت. ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته» . وقال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» .
وقال أبو عبد الرحمن السلمى: «حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي ﷺ وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا» ....
فإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر، وسعيد ابن جبير. وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبى رباح، والحسن البصري وغيرهم» «١» .
هذا، وأنت إذا سرحت طرفك في المكتبة الإسلامية ترى العشرات من كتب التفسير، منها القديم والحديث، وترى منها الكبير والوسيط والوجيز، وترى منها ما يغلب عليه طابع التفسير بالمأثور، وترى ما يغلب عليه طابع التفسير بالرأى، وترى منها ما تغلب عليه الصبغة الفقهية، أو البلاغية، أو الفلسفية، أو الصوفية، أو العلمية، أو الاجتماعية، أو الطائفية.... أو غير ذلك من الاتجاهات والميول التي تختلف باختلاف أفكار الكاتبين وثقافتهم ومذهبهم ...
وترى منها المحرر أو شبه المحرر من الخرافات، والأقوال السقيمة، والقصص الباطلة ... كما ترى منها ما هو محشو بذلك.
ولقد انتفعت كثيرا بما كتبه الكاتبون عن كتاب الله- تعالى-، وها أنذا- أخى القارئ- أقدم لك تفسيرا وسيطا لسورتى الفاتحة والبقرة، وقد بذلت فيه أقصى جهدي ليكون تفسيرا علميا محققا، محررا من الأقوال الضعيفة، والشبه الباطلة، والمعاني السقيمة..
_________
(١) تفسير ابن كثير ح ١ ص ٤ وما بعدها- بتصرف وتلخيص-
1 / 9