بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من تجلى لعباده في كتابه، بل في كل شئ، وأراهم نفسه في خطابه، بل في كل نور وفئ، دل على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته، كيف يستدل عليه بما هو في وجوده مفتقر إليه، بل متى غاب حتى يحتاج إلى دليل يدل عليه، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه، عميت عين لا تراه ولا يزال عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبه نصيبا، تعرف لكل موجود فما جهله موجود، وتعرف إلينا بكل شاهد لنشاهده في كل مشهود، نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيرا وأودع أسراره أهل البيت فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، أبلج عن هدى نبيه المرسل، بنور كتابه المنزل، وكشف عن سر كتابه المنزل بعترة نبيه المرسل، جعل الكتاب والعترة حبلين ممدودين بينه وبيننا، ليخرجنا بتمسكنا بهما من مهوى ضلالتنا ويذهب عنا شيننا، لم يزل أقامهما فينا طرف منهما بيده وطرف بأيدينا، من بهما علينا وحببهما بفضله إلينا، وهما الثقلان اللذان تركهما النبي فينا، وخلفهما لدينا، وقال إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي حوضي، فأخبرنا بأنهما صاحبان مصطحبان، وأخوان مؤتلفان، وإن العترة تراجمة للقرآن، فمن الكشاف عن وجوه عرائس أسراره ودقائقه وهم قد خوطبوا به، ومن التبيان مشكلاته ولديه مجمع بيان معضلاته ومنبع بحر حقائقه وهم: أبو حسنه، ومن لشرح آيات الله وتيسير تفسيرها بالرموز والصراح الا من شرح الله صدره بنوره، ومثله بالمشكاة والمصباح ومن عسى يبلغ علمه بمعالم التنزيل
Page 7
والتأويل وفي بيوتهم كان ينزل جبرئيل، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع، فعنهم يؤخذ ومنهم يسمع، إذ أهل البيت بما في البيت أدرى والمخاطبون لما خوطبوا به أوعى، فأين نذهب عن بابهم، وإلى من نصير لا والله ولا ينبئك مثل خبير، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، اللهم فكما هديتنا للتمسك بحبل الثقلين وجعلت لنا المودة في القربى قرة عين، فاشرح صدورنا لأسرار كتابك لنرتقي من العلم إلى العين، ونور أفئدتنا بأنوار العترة لتخرجنا من ظلمات الغين والرين وصل اللهم على محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلى التسعة من ولد الحسين (عليهم السلام) وصن بياننا عن الشين ولساننا عن المين.
أما بعد: فيقول خادم علوم الدين، وراصد اسرار كتاب الله المبين، والفقير إلى الله في كل موقف وموطن (محمد بن مرتضى) المدعو (بمحسن) حشره الله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هذا يا اخواني ما سألتموني من تفسير القرآن بما وصل إلينا من أئمتنا المعصومين من البيان، أتيتكم به مع قلة البضاعة، وقصور يدي عن هذه الصناعة، على قدر مقدور فإن المأمور معذور، والميسور لا يترك بالمعسور، ولا سيما كنت أراه امرا مهما، وبدونه أرى الخطب مدلهما، فان المفسرين وان أكثروا القول في معاني القرآن، إلا أنه لم يأت أحد منهم فيه بسلطان وذلك لأن في القرآن ناسخا ومنسوخا ومحكما ومتشابها وخاصا وعاما ومبينا ومبهما ومقطوعا وموصولا وفرائض وأحكاما وسننا وآدابا وحلا لا وحراما وعزيمة ورخصة وظاهرا وباطنا وحدا ومطلعا، ولا يعلم تمييز ذلك كله إلا من نزل في بيته، وذلك هو النبي وأهل بيته، فكل ما لا يخرج من بيتهم فلا تعويل عليه.
ولهذا ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ، وقد جاءت عن أهل البيت في تفسير القرآن وتأويله أخبار كثيرة إلا أنها خرجت متفرقة عند أسئلة السائلين، وعلى قدر أفهام المخاطبين، وبموجب إرشادهم إلى مناهج الدين وبقيت بعد خبايا في زوايا خوفا من الأعداء وتقية من
Page 8
البعداء ولعله مما برز وظهر لم يصل إلينا الأكثر، لأن رواته كانوا في محنة من التقية وشدة من الخطر وذلك بأنه لما جرى في الصحابة ما جرى، وضل بهم عامة الورى، أعرض الناس عن الثقلين وتاهوا في بيداء ضلالتهم عن النجدين إلا شرذمة من المؤمنين فمكث العامة بذلك سنين وعمهوا في غمرتهم حتى حين، فآل الحال إلى: أن نبذ الكتاب حملته وتناساه حفظته، فكان الكتاب وأهله في الناس وليسا في الناس ومعهم وليسا معهم، لأن الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا، وكان العلم مكتوما وأهله مظلوما لا سبيل لهم إلى إبرازه إلا بتعميته وألغازه، ثم خلف من بعدهم خلف غير عارفين ولا ناصبين لم يدروا ما صنعوا بالقرآن، وعمن أخذوا التفسير والبيان، فعمدوا إلى طائفة يزعمون أنهم من العلماء، فكانوا يفسرونه لهم بالآراء ويروون تفسيره عمن يحسبونه من كبرائهم، مثل: أبي هريرة، وأنس وابن عمر ونظرائهم. وكانوا يعدون أمير المؤمنين (عليه السلام) من جملتهم ويجعلونه كواحد من الناس، وكان خير من يستندون إليه بعده ابن مسعود وابن عباس ممن ليس على قوله كثير تعويل ولا له إلى لباب الحق سبيل، وكان هؤلاء الكبراء ربما يتقولون من تلقاء أنفسهم غير خائفين من مآله وربما يستندونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن الآخذين عنهم من لم يكن له معرفة بحقيقة أحوالهم لما تقرر عنهم أن الصحابة كلهم عدول ولم يكن لأحد منهم عن الحق عدول، ولم يعلموا أن أكثرهم كانوا يبطنون النفاق ويجترون على الله ويفترون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عزة وشقاق، هكذا كان حال الناس قرنا بعد قرن فكان لهم في كل قرن رؤساء ضلالة، عنهم يأخذون وإليهم يرجعون، هم بآرائهم يجيبون وإلى كبرائهم يستندون وربما يروون عن بعض أئمة الحق في جملة ما يروون عن رجالهم ولكن يحسبونه من أمثالهم. فتبا لهم ولأدب الرواية، إذ ما رعوها حق الرعاية، نعوذ بالله من قوم حذفوا محكمات الكتاب ونسوا الله رب الأرباب راموا غير باب الله أبوابا، واتخذوا من دون الله أربابا، وفيهم أهل بيت نبيهم وهم أزمة الحق وألسنة الصدق وشجرة النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط
Page 9
الوحي وعيبة العلم ومنار الهدى والحجج على أهل الدنيا وخزائن اسرار الوحي والتنزيل، ومعادن جواهر العلم والتأويل، الأمناء على الحقائق، والخلفاء على الخلائق، أولوا الأمر الذين أمروا بطاعتهم وأهل الذكر الذين أمروا بمسألتهم وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والراسخون في العلم الذين عندهم علم القرآن كله تأويلا وتفسيرا ومع ذلك كله يحسبون أنهم مهتدون إنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما أصبح الأمر كذلك وبقي العلم مخزونا هنالك صار الناس كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب بإمامهم فضربوا بعضه ببعض لترويج مرامهم وحملوه على أهوائهم في تفاسيرهم وكلامهم، والتفاسير التي صنفها علماء العامة من هذا القبيل فكيف يصح عليها التعويل، وكذلك التي صنفها متأخروا أصحابنا، فإنها أيضا مستندة إلى رؤساء العامة وشذ ما نقل فيه حديث عن أهل العصمة، وذلك لأنهم إنما نسجوا على منوالهم واقتصروا في الأكثر على أقوالهم، مع أن أكثر ما تكلم به هؤلاء وهؤلاء فإنما تكلموا في النحو والصرف والاشتقاق واللغة والقراءة وأمثالها مما يدور على القشر دون اللباب فأين هم والمقصود من الكتاب، وإنما أورد كل طائفة منهم ما قويت فيه منته، وترك ما لا معرفة له به مما قصرت عنه همته، ومنهم من أدخل في التفسير ما لا يليق به فبسط الكلام في فروع الفقه وأصوله وطول القول في اختلاف الفقهاء أو صرف همته فيه إلى المسائل الكلامية وذكر ما فيها من الآراء، واماما وصل الينا مما ألفه قدماؤنا من أهل الحديث فغير تام لأنه إما غير منته إلى آخر القرآن وإما غير محيط بجميع الآيات المفتقرة إلى البيان، مع أن منه ما لم يثبت صحته عن المعصوم لضعف رواته أو جهالة حالهم ونكارة بعض مقالهم، ومنه ما أورد جامعه في كثير من المواضع ما لا مدخل له في فهم القرآن وترك فيه وفي مواضع اخر ما لا بد منه في التفسير والتبيان. لم يأت بنظم يليق، ولا بأسلوب أنيق، ومنه ما يشتمل مع ذلك على ما ثبت خلافه في العقل والأنباء كنسبة الكبائر والسفه إلى الأنبياء، ومنه ما يشتمل على التأويلات البعيدة التي تشمئز عنها الطباع وتنفر عنه الأسماع
Page 10
وتحجب عن البيان وتزيد في حيرة الحيران مما يجب رده إليهم من غير إنكار كما وردت به الأخبار ولعلها إن صحت فإنما وردت لمصالح ومعان يقتضيها الوقت والزمان.
ومنه ما يشتمل على ما يوهم عليه التناقض والتضاد (1) لتخصيص المعنى تارة ببعض الأفراد كأنه هو المراد، وتارة بفرد آخر كأن غيره لا يراد، من غير تعرض للجمع والتوفيق، ولا اتيان بما هو التحقيق وجله يشتمل على ما يوهم اختصاص آيات الرحمة بأشخاص بأعيانهم، كأنها لا يجاوزهم إلى الغير واختصاص آيات العذاب بأشخاص اخر كأنهم خصوا بالبعد عن الخير من غير تعرض منهم لبيان المراد، وأن ليس المقصود بهما خصوص الآحاد والأفراد، كما يعرفه البصير في الدين والخبير بأسرار كلام المعصومين، كيف ولو كان ذلك كذلك لكان القرآن قليل الفائدة، يسير الجدوى والعائدة، حاشاه عن ذلك بل إنما ورد ذلك على سبيل المثال، لإزاحة الخفاء أو ذكر الفرد الأكمل أو الأخفى، أو المنزل فيه أو للإشارة إلى أحد بطون معانيه.
وأما في كتب الأخبار مما يتعلق بالتفسير فكان مع اشتماله على بعض هذه الأمور متفرقا بحيث يعسر ضبطه وربطه بالآيات، مع أنه لم يف بأكثر المهمات وبالجملة لم نر إلى الآن في جملة المفسرين مع كثرتهم وكثرة تفاسيرهم من أتى بتصنيف تفسير مهذب صاف واف كاف شاف يشفي العليل ويروي الغليل، يكون منزها عن آراء العوام مستنبطا من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وليس لهذا الأمر الخطير والاتيان بمثل هذا التفسير الا ناقد بصير، ينظر بنور الله ويؤيده روح القدس، بإذن الله ليشاهد صدق الحديث وصحته من اشراق نوره، ويعرف كذبه وضعفه من لحن القول وزوره فيصحح
Page 11