Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
وأما تفصيلا: فالجواب عن الأول: أن الرحمة فيه تعالى ليس بمعنى رقة القلب والإشفاق والتأثر الباطني فإنها تستلزم المادة - تعالى عن ذلك -، بل معناها العطية والإفاضة لما يناسب الاستعداد التام الحاصل في القابل، فإن المستعد بالاستعداد التام الشديد يحب ما يستعد له ويطلبه ويسأله بلسان استعداده فيفاض عليه ما يطلبه ويسأله، والرحمة رحمتان: رحمة عامة، وهي إعطاء ما يستعد له الشيء ويشتاقه في صراط الوجود والكينونة، ورحمة خاصة، وهي إعطاء ما يستعد الشيء في صراط الهداية إلى التوحيد وسعادة القرب وإعطاء صورة الشقاء اللازم الذي أثره العذاب الدائم للإنسان المستعد له باستعداده الشديد لا ينافي الرحمة العامة بل هو منها، وأما الرحمة الخاصة فلا معنى لشمولها لمن هو خارج عن صراطها، فقول القائل: إن العذاب الدائم ينافي الرحمة إن أراد به الرحمة العامة فليس كذلك بل هو من الرحمة العامة، وإن أراد به الرحمة الخاصة فليس كذلك لكونه ليس موردا لها، على أن الإشكال لو تم لجرى في العذاب المنقطع أيضا حتى أنواع العذاب الدنيوي، وهو ظاهر.
والجواب عن الثاني: أنه ينبغي أن يحرر معنى عدم ملاءمة الطبع فإنه تارة بمعنى عدم السنخية بين الموضوع والأثر الموجود عنده وهو الفعل القسري الذي يصدر عن قسر القاسر ويقابله الأثر الملائم الذي يصدر عن طبع الشيء إذا اقترن به آفات ثم رسخت فيه فصارت صورة في الشيء وعاد الشيء يطلبه بهذا الوجود وهو في عين الحال لا يحبه كما مثلنا فيه من مثال الماليخوليائي فهذه الآثار ملائمة لذاته من حيث صدورها عن طبعه الشقي الخبيث، والآثار الصادرة عن الطباع ملائمة، وهي بعينها عذاب لصدق حد العذاب عليها لكون الشيء لا يرتضيها فهي غير مرضية من حيث الذوق والوجدان في عين كونها مرضية من حيث الصدور.
والجواب عن الثالث: أن العذاب في الحقيقة ترتب أثر غير مرضي على موضوعه الثابت حقيقة، وهو صورة الشقاء فهذا الأثر معلول الصورة الحاصلة بعد تحقق علل معدة، وهي المخالفات المحدودة، وليس معلولا لتلك العلل المعدة المحدودة حتى يلزم تأثير المتناهي أثرا غير متناه وهو محال، ونظيره أن عللا معدة ومقربات معدودة محدودة أوجبت أن تتصور المادة بالصورة الإنسانية فيصير إنسانا يصدر عنه آثار الإنسانية المعلولة للصورة المذكورة، ولا معنى لأن يسأل ويقال: إن الآثار الإنسانية الصادرة عن الإنسان بعد الموت صدورا دائميا سرمديا لحصول معدات محدودة مقطوعة الأمر للمادة فكيف صارت مجموع منقطع الآخر من العلل سببا لصدور الآثار المذكورة وبقائها مع الإنسان دائما لأن علتها الفاعلة - وهي الصورة الإنسانية - موجودة معها دائما على الفرض، فكما لا معنى لهذا السؤال لا معنى لذلك أيضا.
والجواب عن الرابع: أن الخدمة والعبودية أيضا مثل الرحمة على قسمين: عبودية عامة، وهو الخضوع والانفعال الوجودي عن مبدإ الوجود، وعبودية خاصة وهو الخضوع والانقياد في صراط الهداية إلى التوحيد، ولكل من القسمين جزاء يناسبه وأثر يترتب عليه ويخصه من الرحمة، فالعبودية العامة في نظام التكوين جزاؤه الرحمة العامة، والنعمة الدائمة والعذاب الدائم كلاهما من الرحمة العامة، والعبودية الخاصة جزاؤه الرحمة الخاصة، وهي النعمة والجنة وهو ظاهر، على أن هذا الإشكال لو تم لورد في مورد العذاب المنقطع الأخروي بل الدنيوي أيضا.
والجواب عن الخامس: أن العذاب الدائم مستند إلى صورة الشقاء الذي في الإنسان كما عرفت، وإلى الله سبحانه بالمعنى الذي يقال: في كل موجود: أنه مستند إليه تعالى لا بمعنى الانتقام وتشفي الصدر المستحيل عليه تعالى، نعم الانتقام بمعنى الجزاء الشاق والأثر السيىء الذي يجزي به المولى عبده في مقابل تعديه عن طور العبودية، وخروجه عن ساحة الانقياد إلى عرصة التمرد والمخالفة مما يصدق فيه تعالى لكن لا يستلزم كون العذاب انتقاما بهذا المعنى إشكالا البتة.
على أن هذا الإشكال أيضا لو تم لورد في مورد العذاب الموقت المنقطع في الآخرة بل في الدنيا أيضا.
Page 240