Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
يجب له أن يجتلبها ويضمها إلى نفسه، والدليل على هذا الوجوب احتياجه في جهات وجوده وتجهيز الخلقة له بما يقوى به على ذلك، كجهاز التغذي وجهاز التناسل مثلا، فعلى الإنسان أن يقدم عليه، وليس له أن لا يقدم قطعا بالتفريط فإنه يناقض دليل الوجوب الذي ذكرناه، وليس له أن يقدم في باب من أبواب الحاجة بما يزيد على اللازم بالإفراط، مثل أن يأكل حتى يموت، أو يمرض، أو يتعطل عن سائر قواه الفعالة، بل عليه أن يتوسط في جلب كل كمال أو منفعة، وهذا التوسط هي العفة، وطرفاه الشره والخمود، وكذلك نرى الفرد في وجوده وبقائه متوسطا بين نواقص وأضداد ومضار لوجوده يجب عليه أن يدفعها، والدليل عليه الاحتياج والتجهيز في نفسه فيجب عليه المقاومة والدفاع على ما ينبغي من التوسط، من غير إفراط يضاد سائر تجهيزاته أو تفريط يضاد الاحتياج والتجهيز المربوطين، وهذا التوسط هي الشجاعة، وطرفاها التهور والجبن ونظير الكلام جار في العلم ومقابليه أعني الجربزة والبلادة، وفي العدالة ومقابليها وهما الظلم والانظلام.
فهذه أربع ملكات وفضائل يستدعيه الطبيعة الفردية المجهزة بأدواتها: العفة والشجاعة، والحكمة، والعدالة - وهي كلها حسنة - لأن معنى الحسن الملاءمة لغاية الشيء وكماله وسعادته، وهي جميعا ملاءمة مناسبة لسعادة الفرد بالدليل الذي تقدم ذكره، ومقابلاتها رذائل قبيحة، وإذا كان الفرد من الإنسان بطبيعته وفي نفسه على هذا الوصف فهو في ظرف الاجتماع أيضا على هذا الوصف، وكيف يمكن أن يبطل الاجتماع - وهو من أحكام هذه الطبيعة - سائر أحكامها الوجودية؟ وهل هو إلا تناقض الطبيعة الواحدة، وليس حقيقة الاجتماع إلا تعاون الأفراد في تسهيل الطريق إلى استكمال طبائعهم وبلوغها إلى غاية أمنيتها؟.
وإذا كان الفرد من الإنسان في نفسه وفي ظرف الاجتماع على هذا الوصف، فنوع الإنسان في اجتماعه النوعي أيضا كذلك، فنوع الإنسان في اجتماعه يستكمل بالدفاع بقدر ما لا يفسد الاجتماع وباجتلاب المنافع بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعلم بقدر ما لا يفسد الاجتماع، وبالعدالة الاجتماعية - وهي إعطاء كل ذي حق حقه، وبلوغه حظه الذي يليق به دون الظلم والانظلام - وكل هذه الخصال الأربع فضائل بحكم الاجتماع المطلق يقضي الاجتماع الإنساني بحسنها المطلق ويعد مقابلاتها رذائل ويقضي بقبحها.
فقد تبين بهذا البيان: أن في الاجتماع المستمر الإنساني حسنا وقبحا لا يخلو عنهما قط وأن أصول الأخلاق الأربعة فضائل حسنة دائما، ومقابلاتها رذائل قبيحة دائما، والطبيعة الإنسانية الاجتماعية تقضي بذلك، وإذا كان الأمر في الأصول على هذا النحو فالفروع المنتهية بحسب التحليل إليها حكمها في القبول ذلك، وإن كان ربما يقع اختلاف ما في مصاديقها من جهة الانطباق على ما سنشير إليه.
إذا عرفت ما ذكرنا ظهر لك وجه سقوط ما نقلنا من قولهم من أمر الأخلاق وهاك بيانه.
أما قولهم: إن الحسن والقبح المطلقين غير موجودين، بل الموجود منهما النسبي من الحسن والقبح وهو متغير مختلف باختلاف المناطق والأزمنة والاجتماعات، فهو مغالطة ناشئة من الخلط بين الإطلاق المفهومي بمعنى الكلية والإطلاق الوجودي بمعنى استمرار الوجود، فالحسن والقبح المطلقان الكليان غير موجودين في الخارج لوصف الكلية والإطلاق، لكنهما ليسا هما الموجبين لما نقصده من النتيجة، وأما الحسن والقبح المطلقان المستمران بمعنى استمرارهما حكمين للاجتماع ما دام الاجتماع مستمرا باستمرار الطبيعة فهما كذلك، فإن غاية الاجتماع سعادة النوع، ولا يمكن موافقة جميع الأفعال الممكنة والمفروضة للاجتماع كيف ما، فرض فهناك أفعال موافقة ومخالفة دائما فهناك حسن وقبح دائما.
Page 219