Tafsir Mizan
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
وأيضا قد تكرر في كلامه تعالى: أن الملك لله، وأن له ملك السماوات والأرض وأن له ما في السماوات والأرض وقد مر بيانه مرارا، وحقيقة هذا الملك كما هو ظاهر لا تبقى لشيء من الموجودات استقلالا دونه، واستغناء عنه بوجه من الوجوه فلا شيء إلا وهو سبحانه المالك لذاته ولكل ما لذاته، وإيمان الإنسان بهذا الملك وتحققه به يوجب سقوط جميع الأشياء ذاتا ووصفا وفعلا عنده عن درجة الاستقلال، فهذا الإنسان لا يمكنه أن يريد غير وجهه تعالى، ولا أن يخضع لشيء، أو يخاف أو يرجو شيئا، أو يلتذ أو يبتهج بشيء، أو يركن إلى شيء أو يتوكل على شيء أو يسلم لشيء أو يفوض إلى شيء، غير وجهه تعالى، وبالجملة لا يريد ولا يطلب شيئا إلا وجهه الحق الباقي بعد فناء كل شيء، ولا يعرض إعراضا ولا يهرب إلا عن الباطل الذي هو غيره الذي لا يرى لوجوده وقعا ولا يعبأ به قبال الحق الذي هو وجود باريه جل شأنه.
وكذلك قوله تعالى: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى": طه - 8، وقوله: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء": الأنعام - 102، وقوله: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة - 7، وقوله: "وعنت الوجوه للحي القيوم": طه - 111 وقوله: "كل له قانتون": البقرة - 116، وقوله: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه": الإسراء - 23، وقوله: "أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد": فصلت - 53، وقوله: "ألا إنه بكل شيء محيط": فصلت - 54، وقوله: "وأن إلى ربك المنتهى": النجم - 42.
ومن هذا الباب الآيات التي نحن فيها وهي قوله تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون" إلى آخرها فإن هذه الآيات وأمثالها مشتملة على معارف خاصة إلهية ذات نتائج خاصة حقيقية لا تشابه تربيتها نوع التربية التي يقصدها حكيم أخلاقي في فنه، ولا نوع التربية التي سنها الأنبياء في شرائعهم، فإن المسلك الأول كما عرفت مبني على العقائد العامة الاجتماعية في الحسن والقبح والمسلك الثاني مبني على العقائد العامة الدينية في التكاليف العبودية ومجازاتها، وهذا المسلك الثالث مبني على التوحيد الخالص الكامل الذي يختص به الإسلام على مشرعه وآله أفضل الصلاة هذا.
فإن تعجب فعجب قول بعض المستشرقين من علماء الغرب في تاريخه الذي يبحث فيه عن تمدن الإسلام، وحاصله: أن الذي يجب للباحث أن يعتني به هو البحث عن شئون المدنية التي بسطتها الدعوة الدينية الإسلامية بين الناس من متبعيها، والمزايا والخصائص التي خلفها وورثها فيهم من تقدم الحضارة وتعالي المدنية، وأما المعارف الدينية التي يشتمل عليها الإسلام فهي مواد أخلاقية يشترك فيها جميع النبوات، ويدعو إليها جميع الأنبياء هذا.
وأنت بالإحاطة بما قدمناه من البيان تعرف سقوط نظره، وخبط رأيه فإن النتيجة فرع لمقدمتها، والآثار الخارجية المترتبة على التربية إنما هي مواليد ونتائج لنوع العلوم والمعارف التي تلقاها المتعلم المتربي، وليسا سواء قول يدعو إلى حق نازل وكمال متوسط وقول يدعو إلى محض الحق وأقصى الكمال، وهذا حال هذا المسلك الثالث، فأول المسالك يدعو إلى الحق الاجتماعي، وثانيها يدعو إلى الحق الواقعي والكمال الحقيقي الذي فيه سعادة الإنسان في حياته الآخرة، وثالثها يدعو إلى الحق الذي هو الله، ويبني تربيته على أن الله سبحانه واحد لا شريك له، وينتج العبودية المحضة، وكم بين المسالك من فرق!.
وقد أهدى هذا المسلك إلى الاجتماع الإنساني جما غفيرا من العباد الصالحين، والعلماء الربانيين، والأولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين.
على أن هذا المسلك ربما يفترق عن المسلكين الآخرين بحسب النتائج، فإن بناءه على الحب العبودي، وإيثار جانب الرب على جانب العبد ومن المعلوم أن الحب والوله والتيم ربما يدل الإنسان المحب على أمور لا يستصوبه العقل الاجتماعي الذي هو ملاك الأخلاق الاجتماعية، أو الفهم العام العادي الذي هو أساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل أحكام، وللحب أحكام، وسيجيء توضيح هذا المعنى في بعض الأبحاث الآتية إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون الآية.
Page 208