201

Tafsir Mizan

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

وليت شعري ما ذا يقصده هؤلاء بقولهم هذا؟ وعلى أي صفة يتصورون حياة شهداء بدر بعد قتلهم مع قولهم: بانعدام الإنسان بعد الموت والقتل، وانحلال تركيبه وبطلانه؟ أهو على سبيل الإعجاز: باختصاصهم من الله بكرامة لم يكرم بها النبي الأكرم وسائر الأنبياء والمرسلين والأولياء المقربين، إذ خصهم الله ببقاء وجودهم بعد الانعدام، فليس ذلك بإعجاز بل إيجاد محال ضروري الاستحالة، ولا إعجاز في محال، ولو جاز عند العقل إبطال هذا الحكم على بداهتها لم يستقم حكم ضروري فما دونه؟ أم هو على نحو الاستثناء في حكم الحس بأن يكون الحس مخطئا في أمر هؤلاء الشهداء؟ فهم أحياء يرزقون بالأكل والشرب وسائر التمتعات - وهم غائبون عن الحس - وما ناله الحس من أمرهم بالقتل وقطع الأعضاء وسقوط الحس وانحلال التركيب فقد أخطأ في ذلك من رأس، فلو جاز على الحس أمثال هذه الأغلاط فيصيب في شيء ويغلط في آخر من غير مخصص بطل الوثوق به على الإطلاق، ولو كان المخصص هو الإرادة الإلهية احتاج تعلقها إلى مخصص آخر، والإشكال - وهو عدم الوثوق بالإدراك على حاله، فكان من الجائز أن نجد ما ليس بواقع واقعا والواقع ليس بواقع، وكيف يرضى عاقل أن يتفوه بمثل ذلك؟ وهل هو إلا سفسطة؟.

وقد سلك هؤلاء في قولهم هذا مسلك العامة من المحدثين، حيث يرون أن الأمور الغائبة عن حواسنا مما يدل عليه الظواهر الدينية من الكتاب والسنة، كالملائكة وأرواح المؤمنين وسائر ما هو من هذا القبيل موجودات مادية طبيعية، وأجسام لطيفة تقبل الحلول والنفوذ في الأجسام الكثيفة، على صورة الإنسان ونحوه، يفعل جميع الأفعال الإنسانية مثلا، ولها أمثال القوى التي لنا غير أنها ليست محكومة بأحكام الطبيعة: من التغير والتبدل والتركيب وانحلاله، والحياة والموت الطبيعيتين، فإذا شاء الله تعالى ظهورها ظهرت لحواسنا، وإذا لم يشأ أو شاء أن لا تظهر لم تظهر، مشية خالصة من غير مخصص في ناحية الحواس، أو تلك الأشياء.

وهذا القول منهم مبني على إنكار العلية والمعلولية بين الأشياء، ولو صحت هذه الأمنية الكاذبة بطلت جميع الحقائق العقلية، والأحكام العلمية، فضلا عن المعارف الدينية ولم تصل النوبة إلى أجسامهم اللطيفة المكرمة التي لا تصل إليها يد التأثير والتأثر المادي الطبيعي، وهو ظاهر.

فقد تبين بما مر: أن الآية دالة على الحياة البرزخية، وهي المسماة بعالم القبر، عالم متوسط بين الموت والقيامة، ينعم فيه الميت أو يعذب حتى تقوم القيامة.

ومن الآيات الدالة عليه - وهي نظيرة لهذه الآية الشريفة - قوله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتيهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين": آل عمران - 171، وقد مر تقريب دلالة الآية على المطلوب، ولو تدبر القائل باختصاص هذه الآيات بشهداء بدر في متن الآيات لوجد أن سياقها يفيد اشتراك سائر المؤمنين معهم في الحياة، والتنعم بعد الموت.

ومن الآيات قوله تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون": المؤمنون - 100، والآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية وحياتهم بعد البعث، وسيجيء تمام الكلام في الآية إن شاء الله تعالى.

ومن الآيات قوله تعالى: "وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة" ومن المعلوم أن المراد به أول ما يرونهم وهو يوم الموت كما تدل عليه آيات أخر "لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا. وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا. ويوم تشقق السماء بالغمام وهو يوم القيامة ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا: الفرقان - 26، ودلالتها ظاهرة.

وسيأتي تفصيل القول فيها في محله إن شاء الله تعالى.

Page 202