190

Tafsir Mizan

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام، ذكر بعض المفسرين أن المعنى ومن أي مكان خرجت، وفي أي بقعة حللت فول وجهك وذكر بعضهم أن المعنى ومن حيث خرجت من البلاد، ويمكن أن يكون المراد بقوله ومن حيث خرجت مكة، التي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها كما قال تعالى "من قريتك التي أخرجتك": محمد - 13 ويكون المعنى أن استقبال البيت حكم ثابت لك في مكة وغيرها من البلاد والبقاع، وفي قوله وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون تأكيد وتشديد.

قوله تعالى: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره، تكرار الجملة الأولى بلفظها لعله للدلالة على ثبوت حكمها على أي حال، فهو كقول القائل، اتق الله إذا قمت واتق الله إذا قعدت، واتق الله إذا نطقت، واتق الله إذا سكت، يريد: التزم التقوى عند كل واحدة من هذه الأحوال ولتكن معك، ولو قيل اتق الله إذا قمت وإذا قعدت وإذا نطقت وإذا سكت فاتت هذه النكتة، والمعنى استقبل شطر المسجد الحرام من التي خرجت منها وحيث ما كنتم من الأرض فولوا وجوهكم شطره.

قوله تعالى: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني، بيان لفوائد ثلاث في هذا الحكم الذي فيه أشد التأكيد على ملازمة الامتثال والتحذر عن الخلاف: إحداها: أن اليهود كانوا يعلمون من كتبهم أن النبي الموعود تكون قبلته الكعبة دون بيت المقدس، كما قال تعالى: وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم الآية، وفي ترك هذا الحكم الحجة لليهود على المسلمين بأن النبي ليس هو النبي الموعود لكن التزام هذا الحكم والعمل به يقطع حجتهم إلا الذين ظلموا منهم، وهو استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم باتباع الأهواء لا ينقطعون بذلك فلا تخشوهم لأنهم ظالمون باتباع الأهواء، والله لا يهدي القوم الظالمين واخشوني.

وثانيتها: أن ملازمة هذا الحكم يسوق المسلمين إلى تمام النعمة عليهم بكمال دينهم، وسنبين معنى تمام النعمة في الكلام على قوله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي": المائدة - 4.

وثالثتها: رجاء الاهتداء إلى الصراط المستقيم، وقد مر معنى الاهتداء في الكلام على معنى قوله تعالى "اهدنا الصراط المستقيم": فاتحة الكتاب - 6.

وذكر بعض المفسرين أن اشتمال هذه الآية وهي آية - تحويل القبلة - على قوله وليتم نعمته عليكم ولعلكم تهتدون، مع اشتمال قوله تعالى في سورة الفتح في ذكر فتح مكة على هاتين الجملتين، إذ قال تعالى "إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما": الفتح - 2 يدل على كونها مشتملة على البشارة بفتح مكة.

بيان ذلك أن الكعبة كانت مشغولة في صدر الإسلام بأصنام المشركين وأوثانهم وكان السلطان معهم، والإسلام لم يقو بعد بحيث يظهر قهره وقدرته، فهدى الله رسوله إلى استقبال بيت المقدس، لكونه قبلة لليهود، الذين هم أقرب في دينهم من المشركين إلى الإسلام، ثم لما ظهر أمر الإسلام بهجرة رسول الله إلى المدينة، وقرب زمان الفتح وتوقع تطهير البيت من أرجاس الأصنام جاء الأمر بتحويل القبلة وهي النعمة العظيمة التي اختص به المسلمون، ووعد في آية التحويل إتمام النعمة والهداية وهو خلوص الكعبة من أدناس الأوثان، وتعينها لأن تكون قبلة يعبد الله إليها، ويكون المسلمون هم المختصون بها، وهي المختصة بهم، فهي بشارة بفتح مكة، ثم لما ذكر فتح مكة حين فتحت أشار إلى ما وعدهم به من إتمام النعمة والبشارة بقوله ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما الآية.

Page 191