173

Tafsir Mizan

تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي

2 سورة البقرة - 130 - 134

ومن يرغب عن ملة إبرهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفينه فى الدنيا وإنه فى الاخرة لمن الصلحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العلمين (131) ووصى بها إبرهيم بنيه ويعقوب يبنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدى قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبرهيم وإسمعيل وإسحق إلها وحدا ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (134)

بيان

قوله تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: ولقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران - 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: "إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين" الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين، بمنزلة التفسير لقوله: اصطفيناه.

وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.

وأما الثاني فلأن قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين.

والإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى "بلى من أسلم وجهه لله": البقرة - 112، وقال تعالى: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما": الأنعام - 79، ووجه الشيء ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.

Page 174