130

Al-Baḥr al-Muḥīṭ fī al-tafsīr

البحر المحيط في التفسير

Editor

صدقي محمد جميل

Publisher

دار الفكر

Edition Number

١٤٢٠ هـ

Publisher Location

بيروت

أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَأَصُمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا ... أُذُنِي وَمَا فِي سَمْعِهَا وَقْرُ
وَهَذَا مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، لِأَنَّ الْمُسْتَعَارَ لَهُ مَذْكُورٌ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَالِاسْتِعَارَةُ إِنَّمَا تُطْلَقُ حَيْثُ يُطْوَى ذِكْرُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خُلُوًّا عَنْهُ، صَالِحًا لِأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَنْقُولُ عَنْهُ وَالْمَنْقُولُ إِلَيْهِ لَوْلَا دَلَالَةُ الْحَالِ أَوْ فَحْوَى الْكَلَامِ، كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
لَدَى أَسَدٍ شَاكِي السِّلَاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ هُنَاكَ لِذِكْرِهِ، فَلَا يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ، إِذْ هُوَ كَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ... فَتْخَاءُ تَنْفِرُ مِنْ صَفِيرِ الصَّافِرِ
وَالْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى هُوَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لِعَدَمِ قَبُولِهِمُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَاطَوْنَ التَّصَامُمَ وَالتَّبَاكُمَ وَالتَّعَامِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّصِفِينَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَنَبَّهَ عَلَى سُوءِ اعْتِمَادِهِمْ وَفَسَادِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْعَرَبُ إِذَا سَمِعَتْ مَا لَا تُحِبُّ، أَوْ رَأَتْ مَا لَا يُعْجِبُ، طَرَحُوا ذَلِكَ كَأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ وَلَا رَأَوْهُ. قَالَ تَعَالَى: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا «١»، وَقَالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «٢» الْآيَةَ.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أُرِيدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةُ فِي ذَمِّهِمْ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالْبَلَادَةِ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْبَهَائِمِ وَأَشْبَهُ حَالًا مِنَ الْجَمَادَاتِ الَّتِي لَا تَسْمَعُ وَلَا تَتَكَلَّمُ وَلَا تُبْصِرُ. فَمَنْ عُدِمَ هَذِهِ الْمَدَارِكَ الثَّلَاثَةَ كَانَ مِنَ الذَّمِّ فِي الرُّتْبَةِ الْقُصْوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَرَادَ إِبْرَاهِيمُ، عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ السَّلَامُ، الْمُبَالَغَةَ فِي ذَمِّ آلِهَةِ أَبِيهِ قَالَ: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا
«٣»؟ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إِلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الدُّعَاءُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالَ: دُعَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالصَّمَمِ وَالْبَكَمِ وَالْعَمَى جَزَاءً لَهُمْ عَلَى تَعَاطِيهِمْ ذَلِكَ، فَحَقَّقَ اللَّهُ فِيهِمْ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ ذَلِكَ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا «٤» . وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَحَفْصَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا، بِالنَّصْبِ، وَذَكَرُوا فِي نَصْبِهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مفعولا. ثانيا لترك، وَيَكُونَ فِي ظُلُمَاتٍ مُتَعَلِّقًا بتركهم، أو في موضع

(١) سورة لقمان: ٣١/ ٧.
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٥.
(٣) سورة مريم: ١٩/ ٤٢.
(٤) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٧. [.....]

1 / 133