مما لا شك فيه أن الصوم له فوائد جليلة، غفل عنها الجاهلون فرأوا فيه تجويعا للنفس، وإرهاقا للجسد، وكبتا للحرية، لا داعي له ولا مبرر، لأنه تعذيب للبدن دون فائدة أو جدوى.. وعرف سر حكمته العقلاء والعلماء فأدركوا بعض فوائد وأسراره، وأيدهم في ذلك الأطباء، فرأوا في الصيام أعظم علاج، وخير وقاية، وأنجح دواء لكثير من الأمراض الجسدية، التي لا ينفع فيها إلا الحمية الكاملة، والانقطاع عن الطعام والشراب مدة من الزمان. ولسنا الآن بصدد معرفة (الفوائد الصحية) للصيام، فإن ذلك مرجعه لأهل الاختصاص من الأطباء، ولكننا بصدد التعرف على بعض الحكم الروحية التي هي الأساس لتشريع الصيام - فإن الله عز وجل ما شرع العبادات إلا ليربي في الإنسان (ملكة التقوى) وليعوده على الخضوع، والعبودية، والإذعان لأوامر الله العلي القدير.
الأمر الأول: فالصيام عبودية لله، وامتثال لأوامره، واتقاء لحرماته، ولهذا جاء في الحديث القدسي:
" كل عمل آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي "
فشعور الإنسان بالعبودية لله عز وجل، والاستسلام لأمره وحكمه، وهو أسمى أهداف العبادة وأقصى غاياتها، بل هو الأصل والأساس الذي ترتكز عليه حكمة خلق الإنسان
وأمرنا لنسلم لرب العالمين
[الأنعام: 71].
الأمر الثاني: الأمر الثاني من حكمة مشروعية الصيام، هي تربية النفس، وتعويدها على الصبر وتحمل المشاق في سبيل الله، فالصيام يربي قوة العزيمة وقوة الإرادة، ويجعل الإنسان متحكما في أهوائه ورغباته، فلا يكون عبدا للجسد، ولا أسيرا للشهوة، وإنما يسير على هدي الشرع، ونور البصيرة والعقل، وشتان بين إنسان تتحكم فيه أهواؤه وشهواته فهو يعيش كالحيوان لبطنه وشهوته، وبين إنسان يقهر هواه ويسيطر على شهوته، فهو ملاك من الملائكة
ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم
[محمد: 12].
الأمر الثالث: أن الصوم يربي في الإنسان، ملكة الحب والعطف والحنان، ويجعل منه إنسانا رقيق القلب ، طيب النفس، ويحرك فيه كوامن الإيمان، فليس الصيام حرمانا للإنسان عن الطعام والشراب، بل هو تفجير للطاقة الروحية في نفس الإنسان، ليشعر بشعور إخوانه، ويحس بإحساسهم، فيمد إليهم يد المساعدة والعون، ويمسح دموع البائسين، ويزيل أحزان المنكوبين، بما تجود به نفسه الخيرة الكريمة التي هذبها شهر الصيام، ولقد قيل ليوسف الصديق عليه السلام: " لم تجوع وأنت على خزائن الأرض فقال: أخشى إن أنا شبعت أن أنسى الجائع ".
Unknown page