بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا للتمسك بالثقلين، وجعل لنا القرآن هدى، والمودة في القربى قرة عين. أبلج عن هدى نبيه المرسل بنور كتابه المنزل، وكشف عن سر كتابه المنزل بعترة نبيه المرسل. جعل الكتاب والعترة بينه وبيننا حبلين ممدودين، وصاحبين مصطحبين غير مفترقين، لم يزل أقامهما فينا، طرف منهما بيده وطرف بأيدينا، ما تمسكنا بهما لن نضل، وما اعتصمنا بهما لن نزل. فصل اللهم على محمد وعترته، واسقنا من كأسهم الأصفى ما يروينا، وآتنا من فهم القرآن وعلمه الأوفى ما يغنينا.
أما بعد، فيقول الفقير إلى الله في كل مسلك وموطن، محمد بن مرتضى المدعو بمحسن - زوده الله في دنياه لعقباه، وجعل آخرته خيرا من أولاه -: هذا ما اصطفيت من تفسيري للقرآن المسمى ب " الصافي " راعيت فيه غاية الايجاز مع التنقيح، ونهاية التلخيص مع التوضيح، مقتصرا على بيان ما يحتاج إلى البيان من الآيات، دون ما يستغنى عنه من المحكمات الواضحات، فبالحري أن يسمى ب " الأصفى ".
وعسى أن يفي ببيان أكثر ما لا يفهم ظاهره بدون البيان من القرآن، وإن كان " الصافي " هو الأوفى، وإنما معولي فيه على كلام الامام المعصوم من آل الرسول، إلا فيما يشرح اللغة والمفهوم وما إلى القشر يؤول، إذ لا يوجد معالم التنزيل إلا عند قوم كان
Page 1
ينزل في بيوتهم جبرئيل، ولا كشاف عن وجوه عرائس أسرار التأويل إلا من خوطب بأنوار التنزيل. ولا يتأتى تيسير تفسير القرآن إلا ممن لديه مجمع البيان والتبيان. فعلى من نعول إلا عليهم؟ وإلى من نصير إلا إليهم؟ لا والله لا نتبع إلا أخبارهم، ولا نقتفي إلا آثارهم.
ولهذا ما أوردت فيما يفتقر إلى السماع إلا حديثهم ما وجدت إليه سبيلا، إما بألفاظه ومتونه، أو بمعانيه ومضمونه، غير أني لم أذكر قائله بخصوصه، إذ حديثهم واحد، وحديثهم حديث رسول الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تبارك وتعالى، كما ورد عنهم عليهم السلام (1).
فكل ما كان من ألفاظهم عليهم السلام صدرته ب " قال "، أو " ورد "، أو " في رواية ".
فإن تصرفت في شئ منه لتلخيص يستدعيه، أو لتوضيح معانيه، نبهت عليه إن احتاج إلى التنبيه، ليعرف أنه المنقول بمضمونه ومعانيه، وأكثر ما نبهت به على ذلك تذييله ب " كذا ورد "، فإنه من أوجز ألفاظ هذا التنبيه.
وما نقلته من " تفسير علي بن إبراهيم القمي " مما لم ينسبه إلى المعصوم وظاهره أنه مسند إلى المعصوم، صدرته ب " القمي " ليمتاز عن المجزوم.
وما رويت من طريق العامة، صدرته ب " روي " ليمتاز عما رويت من طريق الخاصة.
وما لم أجد فيه إلى حديث المعصوم سبيلا، أو لم أعتمد على ما وجدت منه، وهو مما يفتقر إلى السماع - وعسى أن يكون قليلا - أوردت من سائر التفاسير ما هو أقوم قيلا. والله المستعان، نفعنا الله به وسائر الاخوان، بحق العترة والقرآن، إنه الجواد المنان.
Page 2
مقدمة:
ينبغي لمن أراد فهم معاني القرآن من الأخبار من دون توهم تناقض وتضاد، أن لا يجمد في تفسيره ومعناه على خصوص بعض الآحاد والأفراد، بل يعمم المعنى والمفهوم في كل ما يحتمل الإحاطة والعموم، كما ورد في بعض الآيات من الروايات. فإن وهم التناقض في الأخبار المخصصة إنما يرتفع بذلك، وفهم أسرار القرآن يبتني على ذلك، وإن نظر أهل البصيرة إنما يكون على الحقائق الكلية، دون الأفراد الجزئية.
فما ورد في بعض الأخبار من التخصيص، فإنما ورد للتنبيه على المنزل فيه، أو الإشارة إلى أحد بطون معانيه، أو غير ذلك. وذلك بحسب فهم المخاطب على سبيل الاستئناس، إذ كان كلامهم مع الناس على قدر عقول الناس (1).
وقد عمم مولانا الصادق عليه السلام الآية التي وردت في صلة رحم آل محمد عليهم السلام صلة كل رحم، ثم قال: " ولا تكونن ممن يقول في الشئ: إنه في شئ واحد " (2).
وعليه نبه عليه السلام في حديث المفضل بن عمر، حيث فسر له قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " علي قسيم الجنة والنار "، وقد ذكرناه في مقدمات " الصافي " (3).
كيف ولو كان المقصود من القرآن مقصورا على أفراد خاصة ومواضع مخصوصة، لكان القرآن قليل الفائدة، يسير الجدوى والعائدة، حاشاه عن ذلك فإنه " بحر لا ينزف (4)،
Page 3
ظاهره أنيق (1)، وباطنه عميق، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه ". كما ورد (2).
وقد تبين مما ذكرنا معنى التأويل، فإنه يرجع إلى إرادة بعض أفراد معنى العام، وهو ما بطن عن أفهام العوام، ويقابل التنزيل (3). والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
Page 4
سورة فاتحة الكتاب (بسم الله) قال: " الله هو الذي يتأله إليه كل مخلوق عند الحوائج والشدائد، إذا انقطع الرجاء من كل من دونه وتقطع الأسباب من جميع من سواه، يقول: " بسم الله "، أي: أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحق العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي " (1).
أقول: معنى يتأله إليه: يفزع إليه ويلتجأ ويسكن. وفي رواية: " يعني: بهذا الاسم أقرأ، أو أعمل هذا العمل " (2). وفي أخرى: " يعني: أسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة. قال: والسمة: العلامة " (3). ويأتي حديث آخر في معنى " الله " في تفسير سورة الاخلاص إن شاء الله.
(الرحمن) قال: " الذي يرحم ببسط الرزق علينا " (4). وفي رواية: " العاطف على خلقه بالرزق، لا يقطع عنهم مواد رزقه، وإن انقطعوا عن طاعته " (5).
Page 5
أقول: الرزق يشمل كل ما به قوام الوجود والكمال اللائق به.
(الرحيم) قال: " الرحيم بنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا، خفف علينا الدين وجعله سهلا، وهو يرحمنا بتمييزنا من أعدائه " (1). وفي رواية: " الرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته، وبعباده الكافرين في الرفق في دعائهم إلى موافقته " (2).
(الحمد لله) قال: " قال الله: قولوا: الحمد لله عليه ما أنعم به علينا " (3). (رب العلمين). قال: " يعني: مالك الجماعات من كل مخلوق، وخالقهم، وسائق رزقهم إليهم من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون، يقلب الحيوانات في قدرته، ويغذوها من رزقه، ويحوطها (4) بكنفه، ويدبر كلا منها بمصلحته، ويمسك الجمادات بقدرته ما اتصل منها عن التهافت (5)، والمتهافت عن التلاصق، والسماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، والأرض أن تنخسف إلا بأمره " (6).
(الرحمن الرحيم). لعل تكريرهما للتنبيه بهما في جملة الصفات المذكورة على استحقاقه الحمد.
(ملك يوم الدين). قال: " يعني: القادر على إقامته والقاضي فيه بالحق.
والدين: الحساب " (7).
(إياك نعبد) قال: " قال الله تعالى: قولوا يا أيها الخلق المنعم عليهم: إياك - أيها المنعم علينا - نطيع، مخلصين، موحدين مع التذلل والخشوع، بلا رياء ولا سمعة " (8).
Page 6
وفي رواية: " لا نريد منك غيرك " (1).
أقول: إنما انتقل العبد من الغيبة إلى الخطاب، لأنه كان بتمجيده لله سبحانه يتقرب إليه متدرجا، إلى أن بلغ في القرب مقاما كأن العلم صار له عيانا، والخبر شهودا، والغيبة حضورا.
(وإياك نستعين) قال: " على طاعتك وعبادتك، وعلى دفع شرور أعدائك " (2).
(اهدنا الصراط المستقيم). قال: " يعني: أدم لنا (3) توفيقك الذي أطعناك به في ماضي أيامنا، حتى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا " (4). وفي رواية: " يعني: أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك، والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب (5) وأن نأخذ بآرائنا فنهلك " (6). وفي أخرى: " الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام، وفي الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنة " (7).
وفي أخرى: " هي الطريق إلى معرفة الله، وهما صراطان: صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأما الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة، من عرفه في الدنيا واقتدى بهداه مر على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، ومن لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى (8) في نار جهنم " (9). وورد: " الصراط أدق من الشعر
Page 7
وأحد من السيف. فمنهم من يمر عليه مثل البرق، ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر عليه ماشيا، ومنهم من يمر عليه حبوا (1)، ومنهم من يمر عليه متعلقا، فتأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا " (2). وفي رواية: " إنه مظلم، يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم " (3).
أقول: مآل الكل واحد، لان الصراط المستقيم ما إذا سلكه العبد أوصله إلى الجنة، وهو ما يشتمل عليه الشرع، كما قال الله تعالى: " وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم " (4).
وهو صراط التوحيد والمعرفة، والتوسط بين الأضداد في الأخلاق، والتزام صوالح الأعمال.
وبالجملة: صورة الهدى الذي أنشأه المؤمن لنفسه ما دام في دار الدنيا مقتديا فيه بهدى إمامه، ينتقل فيه من معرفة إلى معرفة أخرى فوقها، ومن خلق محمود إلى أحمد، ومن عمل صالح إلى أصلح، حتى يلتحق بأهل الجنة. وهو أدق من الشعر وأحد من السيف في المعنى، مظلم لا يهتدي إليه إلا من جعل الله له نورا يمشي به في الناس، يسعى الناس عليها على قدر أنوارهم في المعرفة. وورد: " إن الصورة الانسانية هي الطريق المستقيم إلى كل خير، والجسر الممدود بين الجنة والنار " (5).
ويتبين من هذا كله أن الصراط والمار عليه شئ واحد، في كل خطوة يضع قدمه على رأسه، أعني يعمل على مقتضى نور معرفته التي هي بمنزلة رأسه، بل ويضع رأسه على قدمه، أي: يبني معرفته على نتيجة عمله الذي كان بناؤه على المعرفة السابقة، حتى يقطع المنازل ويصل إلى الجنة، وإلى الله المصير.
Page 8
(صرط الذين أنعمت عليهم) قال: " أي قولوا: صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة، فإنهم قد يكونون كفارا أو فساقا. قال: وهم الذين قال الله تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " (1).
(غير المغضوب عليهم) قال: " هم اليهود الذين قال الله فيهم: " من لعنه الله وغضب عليه ". (2) (ولا الضالين) قال: " هم النصارى الذين قال الله فيهم: قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا ". ثم قال: كل من كفر بالله فهو مغضوب عليه وضال عن سبيل الله " (3).
وفي رواية: " المغضوب عليهم: النصاب، والضالين: أهل الشكوك الذين لا يعرفون الامام " (4).
أقول: ويدخل في صراط المنعم عليهم: كل وسط واستقامة في العقائد والأخلاق والأعمال، وهم: " الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " (5)، وفي صراط المغضوب عليهم: كل تفريط وتقصير، ولا سيما إذا كان عن علم كما فعلت اليهود بموسى وعيسى ونبينا صلوات الله عليهم، وفي صراط الضالين: كل إفراط وغلو، ولا سيما إذا كان عن جهل، كما فعلت النصارى بعيسى عليه السلام، وذلك لان الغضب يلزمه البعد والطرد، والمقصر هو المدبر المعرض فهو البعيد المطرود، والضلال هو الغيبة عن المقصود، والمفرط هو المقبل المجاوز، فهو الذي غاب عنه المطلوب.
Page 9
سورة البقرة [مدنية، وهي مائتان وست وثمانون آية] (1) (بسم الله الرحمن الرحيم). قد مر تفسيرها.
(ألم). قال: " هو حرف من حروف اسم الله الأعظم، المقطع في القرآن، الذي يؤلفه النبي أو الامام عليهما السلام، فإذا دعا به أجيب " (2). وفي رواية: " وإذا عد أخبر بما يغيب " (3).
أقول: فهو سر بين الله وبين الحبيب، لم يقصد به إفهام غيره وغير الراسخين في العلم من ذريته. وفيه الأعاجيب، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب.
(ذلك الكتب) قال: " يعنى القرآن الذي افتتح ب " ألم "، هو " ذلك الكتاب " الذي أخبرت به موسى ومن بعده من الأنبياء، وهم أخبروا بني إسرائيل أني سأنزله عليك يا محمد " (4). (لا ريب فيه) قال: " لا شك فيه لظهوره عندهم " (5). (هدى للمتقين) قال:
Page 11
" الذين يتقون الموبقات، ويتقون تسليط السفه (1) على أنفسهم، حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه، عملوا بما يوجب لهم رضا ربهم، فإنهم يهتدون به وينتفعون بما فيه " (2).
(الذين يؤمنون بالغيب) قال: " بما غاب عن حواسهم من توحيد الله، ونبوة الأنبياء، وقيام القائم، والرجعة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، وسائر الأمور التي يلزمهم الايمان بها مما لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يعرف بدلائل نصبها الله عز وجل عليه " (3). (ويقيمون الصلاة) قال: " بإتمام ركوعها وسجودها، وحفظ مواقيتها وحدودها، وصيانتها مما يفسدها أو ينقصها " (4). (ومما رزقناهم) قال: " من الأموال والأبدان والقوى والجاه والعلم " (5). (ينفقون): يتصدقون.
" يحتملون الكل (6)، ويؤدون الحقوق لأهاليها، ويقرضون، ويسعفون (7) الحاجات، ويأخذون بأيدي الضعفاء، يقودون الضرائر (8) وينجونهم من المهالك، ويحملون المتاع عنهم، ويحملون الراجلين على دوابهم، ويؤثرون من هو أفضل منهم في الايمان على أنفسهم بالمال والنفس، ويساوون من كان في درجتهم فيه بهما، ويعلمون العلم من كان أهله، ويروون فضائل أهل البيت عليهم السلام لمحبيهم ولمن يرجون هدايته ". كذا ورد (9).
(والذين يؤمنون بما أنزل إليك) من القرآن والشريعة (وما أنزل من قبلك) قال:
Page 12
" من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة " (1). (وبالآخرة) قال: " الدار التي بعد هذه الدار التي فيها جزاء الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه، وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه " (2). (هم يوقنون) قال: " لا يشكون " (3).
(أولئك على هدى من ربهم) قال: " على بيان وصواب وعلم بما أمرهم به " (4).
(وأولئك هم المفلحون) قال: " الناجون مما منه يوجلون، الفائزون بما يؤملون " (5).
(إن الذين كفروا) قال: " بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون " (6). (سواء عليهم أأنذرتهم) قال: " خوفتهم " (7). (أم لم تنذرهم لا يؤمنون). قال: " أخبر عن علمه فيهم " (8).
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم). قال: " وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته وأوليائه إذا نظر إليها بأنهم الذين لا يؤمنون " (9). " عقوبة على كفرهم " (10).
(وعلى أبصرهم غشوة): غطاء. قال: " وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه وقصروا فيما أريد منهم، جهلوا ما لزمهم الايمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء، لا يبصر ما أمامه، فإن الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد، ومطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه " (11). (ولهم عذاب عظيم) قال: " يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين، وفي الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه، بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه على طاعته، أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمته " (12).
Page 13
أقول: الاصطلام - بالمهملتين - الاستئصال.
(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر). " نزلت في المنافقين والناصبين العداوة لآل الرسول، من الذين زادوا على الكفر الموجب للختم. والغشاوة: النفاق ".
كذا ورد (1). (وما هم بمؤمنين).
(يخدعون الله): " يعاملون الله معاملة المخادع ". كذا ورد (2). وفي رواية:
" يخادعون رسول الله بإبدائهم له خلاف ما في جوانحهم " (3).
أقول: وجه التوفيق أن مخادعة الرسول مخادعة الله، كما قال عز وجل: " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " (4). وقال: " من يطع الرسول فقد أطاع الله " (5). وقال:
" وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " (6).
(والذين آمنوا): ويخادعون الذين آمنوا (وما يخدعون إلا أنفسهم) قال:
" ما يضرون بتلك الخديعة إلا أنفسهم، لان الله غني عنهم وعن نصرتهم، ولولا إمهاله لهم لما قدروا على شئ من فجورهم وطغيانهم " (7). (وما يشعرون) قال: " أن الامر كذلك، وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم " (8).
(في قلوبهم مرض): نفاق وشك تغلي على النبي وآله، حقدا وحسدا وغيظا
Page 14
وخنقا (1) (فزادهم الله مرضا) قال: " بحيث تاهت قلوبهم " (2). (ولهم عذاب أليم):
موجع غاية الايجاع. وهو العذاب المعد للمنافقين، وهو أشد من عذاب الكافرين، لان المنافقين في الدرك الأسفل من النار. (بما كانوا يكذبون): بسبب كذبهم أو تكذيبهم، على اختلاف القرائتين (3).
(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) " بإظهار النفاق لعباد الله المستضعفين، فتشوشوا عليهم دينهم وتحيروهم ". كذا ورد (4). (قالوا إنما نحن مصلحون)، " لأنا لا نعتقد دينا، فنرضى محمدا في الظاهر ونعتق أنفسنا من رقه في الباطن، وفي هذا صلاح حالنا ". كذا ورد (5).
(ألا إنهم هم المفسدون) قال: " بما يفعلون أمور أنفسهم، لان الله يعرف نبيه نفاقهم، فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم ولا يثق بهم أعداء المؤمنين، لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون المؤمنين، فلا يرفع لهم عندهم منزلة " (6).
أقول: ولهذا رد عليهم أبلغ رد. (ولكن لا يشعرون).
(وإذا قيل لهم آمنوا) قال: " قال لهم خيار الناس " (7). (كما آمن الناس). قال:
" المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار " (8).
أقول: يعني إيمانا مقرونا بالاخلاص، مبرأ عن شوائب النفاق.
(قالوا) قال: " قالوا في الجواب لمن يفيضون إليه، لا لهؤلاء المؤمنين، فإنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب " (9). (أنؤمن كما آمن السفهاء): " المذلون أنفسهم
Page 15
لمحمد، حتى إذا اضمحل أمره أهلكهم أعداؤه ". كذا ورد (1). (ألا إنهم هم السفهاء) قال:
" الاخفاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا حق النظر، فيعرفوا نبوته وثبات أمره " (2).
(ولكن لا يعلمون).
(وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم) قال: " أخدانهم (3) من المنافقين المشاركين لهم في تكذيب الرسول " (4). (قالوا إنا معكم) أي: في الدين والاعتقاد كما كنا (إنما نحن مستهزءون) بالمؤمنين.
(الله يستهزئ بهم): " يجازيهم جزاء من يستهزئ به، أما في الدنيا ففي إجراء أحكام المسلمين عليهم، وأمره الرسول بالتعريض لهم حتى لا يخفى من المراد بذلك التعريض، وأما في الآخرة فبأن بفتح لهم - وهم في النار - باب إلى الجنة فيسرعون نحوه، فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب، وذلك قوله تعالى: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون ". كذا ورد (5). (ويمدهم) قال: " يمهلهم ويتأنى بهم برفقه " (6).
(في طغيانهم): في التعدي عن حدهم. (يعمهون): يتحيرون، والعمة في البصيرة كالعمى في البصر.
(أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) قال: " باعوا دين الله واعتاضوا منه الكفر بالله " (7). (فما ربحت تجارتهم) قال: " ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة، لأنهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنة التي كانت معدة لهم لو آمنوا " (8). (وما كانوا مهتدين) قال: " إلى الحق والصواب " (9).
Page 16
(مثلهم) أي: حالهم العجيبة. وإنما يضرب الله الأمثال للناس في كتابه لزيادة التوضيح والتقرير، فإنها أوقع في القلب وأقمع للخصم. (كمثل الذي استوقد نارا) قال: " ليبصر بها ما حوله " (1). (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) " بإرسال ريح أو مطر أطفأها، وذلك أنهم أبصروا بظاهر الايمان الحق والهدى، وأعطوا أحكام المسلمين، فلما أضاء إيمانهم الظاهر ما حولهم، أماتهم الله وصاروا في ظلمات عذاب الآخرة ". كذا ورد (2). (وتركهم في ظلمت لا يبصرون) قال: " بأن منعهم المعاونة واللطف، وخلى بينهم وبين اختيارهم " (3).
(صم بكم عمى) قال: " يعني في الآخرة، كما قال عز وجل: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما " (4).
أقول: وفي الدنيا أيضا في بواطنهم من أمور الآخرة، لأنهم سدوا مسامعهم من الاصغاء إلى الحق، وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، وأن يتبصروا الآيات بأبصارهم. (فهم لا يرجعون) عن الضلالة التي اشتروها إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه.
(أو كصيب من السماء): أو كمطر من العلا. قيل: يعني مثل ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر، إذ به حياة القلوب، كما أن بالمطر حياة الأرض (5). (فيه ظلمت ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت). مثل الشبهات والمصيبات بالظلمات، والتخويف والوعيد بالرعد، والآيات الباهرة المتضمنة للتبصير والتسديد بالبرق، وتصاممهم عما يسمعون من الوعيد، وما يطرقون به من النكايات (6) بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص له
Page 17
منها. (والله محيط بالكافرين) قال: " مقتدر عليهم، إن شاء أظهر لك نفاق منافقيهم وأبدى لك أسرارهم وأمرك بقتلهم " (1).
(يكاد البرق يخطف أبصرهم): يذهب بها. وذلك لان " هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فنظروا إلى نفس البرق، لم يغضوا عنه أبصارهم، ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألئه، ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلصوا فيه بضوء البرق.
فهؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي يشاهدونها ولا يتبصرون بها، ويجحدون الحق فيها، يبطل عليهم سائر ما علموه (2) من الأشياء التي يعرفونها، فإن من جحد حقا أداه ذلك إلى أن يجحد كل حق، فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه، كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب بصره " كذا ورد (3).
(كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا): وقفوا وتحيروا. " فهؤلاء المنافقون إذا رأوا ما يحبون في دنياهم، فرحوا وتيمنوا ببيعتهم وإظهار طاعتهم، وإذا رأوا ما يكرهون في دنياهم، وقفوا وتشأموا بها ". كذا ورد (4).
قيل: مثل اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد تطمح إليه أبصارهم، بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم في الامر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة، بتوقفهم إذا أظلم عليهم (5). وإنما قال مع الإضاءة " كلما "، ومع الاظلام " إذا "، لأنهم حراص على المشي، كلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، ولا كذلك التوقف (6).
Page 18
(ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصرهم) قال: " حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك، فتوجب قتلهم " (1). (إن الله على كل شئ قدير) : لا يعجزه شئ.
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) قال: " لها وجهان: أحدهما: خلقكم وخلق الذين من قبلكم لتتقوه، كما قال:
" وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " (2). والآخر: اعبدوه لعلكم تتقون النار.
و " لعل " من الله واجب، لأنه أكرم من أن يعني (3) عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله ثم يخيبه " (4).
(الذي جعل لكم الأرض فرشا) قال: " جعلها ملائمة لطبايعكم، موافقة لأجسادكم، مطاوعة لحرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم، لم يجعلها شديدة الحرارة فتحرقكم، ولا شديدة البرودة فتجمدكم، ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم (5)، ولا شديدة النتن فتعطبكم، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم، ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به في كثير من منافعكم " (6). (والسماء بناء) قال: " سقفا من فوقكم محفوظا، يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم " (7).
(وأنزل من السماء ماء) قال: " يعني: المطر، ينزله من العلا ليبلغ قلل
Page 19
جبالكم وتلالكم هضابكم وأوهادكم، ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا (1) لتنشفه (2) أرضوكم، ولم يجعل نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم " (3). قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي أمره به ربه جل وعز " (4). (فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) أي:
لمطعمكم ومشربكم وملبسكم وسائر منافعكم.
(فلا تجعلوا لله أندادا) قال: " أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ " (5). (وأنتم تعلمون) قال: " أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم " (6).
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) قال: " حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول الله، وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي، مع إظهاري عليه بمكة من الآيات الباهرات، كالغمامة المظللة عليه والجمادات المسلمة عليه وغير ذلك " (7). (فأتوا بسورة من مثله): " من مثل ما نزلنا مماثلة لهذا القرآن في البيان الغريب وحسن النظم والبلاغة، أو (8) من مثل عبدنا ممن هو على حاله، من كونه لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ". كذا ورد (9). (وأدعوا شهداءكم من دون الله): " أصنامكم وشياطينكم ومن
Page 20
تطيعونه وتعبدونه من دون الله، وتزعمون أنهم شهداؤكم يوم القيامة، يشهدون لكم بعبادتكم عند ربكم، ليشهدوا لكم بأن ما آتيتم مثله ". كذا ورد (1). وقيل: لينصروكم على معارضته، فيكون الشهيد بمعنى الناصر (2). (إن كنتم صادقين) قال: " بأن محمدا تقوله من تلقاء نفسه لم ينزله الله عليه " (3).
(فإن لم تفعلوا): الاتيان بما يساويه أو يدانيه (ولن تفعلوا) قال: " ولا يكون هذا منكم أبدا، ولن تقدروا عليه " (4). (فاتقوا النار التي وقودها) قال: " حطبها " (5).
(الناس والحجارة) قال: " حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حرا " (6). وقيل: المراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها، كما في قوله تعالى: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " (7). (أعدت للكافرين) قال:
" المكذبين بكلامه ونبيه " (8).
(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنت تجرى من تحتها) قال:
" من تحت أشجارها ومساكنها " (9). (الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) " في الدنيا، فأسماؤه كأسمائه، ولكنها في غاية الطيب، غير مستحيل إلى ما يستحيل إليه ثمار الدنيا من الفضلات والاخلاط إلا العرق الذي يجري في أعراضهم أطيب ريحا من المسك ". كذا ورد (10).
أقول: العرض - بالكسر -: الجسد.
Page 21