Tafsir Al-Uthaymeen: Ya-Sin
تفسير العثيمين: يس
Publisher
دار الثريا للنشر
Genres
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن من توفيق الله ﷾ أن يسَّر لفضيلة شيخنا -تغمده الله بوامع رحمته ورضوانه- تفسير سورة "يس" في دروسه العلمية التي كان يعقدها رحمه الله تعالى بالجامع الكبير في مدينة عنيزة.
وقد عهدت مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية إلى فضيلة الشيخ فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان، أثابه الله، بالعمل لإعداد هذا الكتاب للنشر، وتخريج أحاديثه وآثاره، فجزاه الله خيرًا.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، موافقا لمرضاته، نافعًا لعباده، وأن يجزي فضيلة شيخنا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، ويضاعف له المثوبة والأجر، ويعلي درجته في المهديين، إنه سميع قريب.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللجنة العلمية
في مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
قال المؤلف (^١) -رحمه الله تعالى-[سورة (يس) مكية، أو إلا قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا﴾ الآية، أو مدنية].
المكي ما نزل قبل الهجرة، وليس ما نزل بمكة، إذ قد ينزل بمكة بعد الهجرة ويكون مدنيًّا، فما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني، وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم، والأقوال في هذه السورة ثلاثة:
الأول: أنها مكية.
الثانية: أنها مدنية.
الثالثة: أنها مكية إلا قوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا﴾.
والذي يظهر أنها مكية؛ لأن أسلوبها أسلوب المكي، والسور المكية تمتاز عن السور المدنية: بقوة الأسلوب، وجزالة
_________
(^١) أخي الكريم: إذا مر بك: قال المؤلف. فالمراد به جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد المحلي رحمه الله تعالى، المتوفي سنة ٨٦٤ هـ. في تفسيره المسمى "تفسير الجلالين" وقد جعلت كلامه ﵀ بين معكوفتين هكذا [].
1 / 3
اللفظ، بخلاف السور المدنية فإن أسلوبها ألين؛ لأنه يخاطب قومًا آمنوا، ويخاطب أيضًا قومًا فيهم أهل كتاب، ليس عندهم من البلاغة في اللغة العربية ما عند العرب، فالظاهر -والله أعلم- أنها مكية، وإذا جعلناها مكية فإننا لا نقول باستثناء شيء منها؛ لأن الأصل أن السورة المكية كلها مكية، وأن السورة المدنية كلها مدنية، فمن ادعى استثناء آية، أو آيتين، أو أكثر فعليه الدليل، أما مجرد أن المعنى يليق بأهل المدينة في آية مثلًا، فهذا لا يكفي في الاستثناء؛ لأن الله تعالى قد يذكر معنًا يليق بأهل المدينة توطئة وتمهيدًا حتى يكون الناس على بصيرة، ولهذا يذكر الله تعالى في الآيات المكية قصص موسى ﵊ مع أن العناية بقصص موسى في المدينة أولى؛ لأن فيها اليهود، أما مكة فليس فيها يهود، فبعض العلماء إذا نظر إلى أن المعنى يليق بالسور المدنية، أو بالأحكام المدنية ذهب يستثني ويقول: إلا آية كذا، إلا آية كذا، وهذا غير مسلم.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ البسملة آية من كتاب الله مستقلة، يؤتى بها في ابتداء كل سورة، ما عدا سورة براءة، وليست البسملة من الفاتحة ولا من غيرها، هذا هو القول الراجح، وأما من قال: إنها من الفاتحة وليست من غيرها، فقوله ضعيف لوجهين:
الأول: للتفريق بدون دليل.
والثاني: أن حديث أبي هريرة ﵁ الثابت في الصحيح وهو قول الله تعالى: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
1 / 4
نصفين" (^١)، يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأنها لم تذكر في هذا الحديث؛ ولأن النبي ﷺ كان لا يجهر بالبسملة في صلاته، وهذا يدل على أنها ليست من الفاتحة، وإلا لجهر بها كما يجهر في بقية الآيات.
أما إعرابها فهي: جار ومجرور، وصفة وموصوف، وهذا الجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهذا المحذوف يقدر فعلًا متأخرًا مناسبًا، وقدرناه فعلًا، لأن الأصل في العوامل الأفعال، ولذلك تعمل الأفعال فعلها بدون شرط، والأسماء التي تعمل عمل الفعل لابد فيها من شروط، وقدرناه مناسبًا أو خاصًّا؛ لأنه أدل على المقصود، وقدرناه متأخرًا لفائدتين:
الأولى: الترك بتقديم اسم الله ﷿.
الثانية: إفادة الحصر، فعندما تسمي على الوضوء فالتقدير: باسم الله أتوضأ، ولو قلت: باسم الله أبتديءُ فيصح، لكن ابتدائي عام، وأتوضأ أخص، والإتيان بالأخص أدل على المقصود، ولو قلت: أبتديء بسم الله، صح لكن فاتك التأخير، والتخصيص، والفعلية؛ لأنك قلت: أبتديء، وإذا قلت: "أبتديء باسم الله" فاتك التأخير والتخصيص، وإذا قلت: "أتوضأ باسم الله" فاتك التأخير فقط.
ولو قال قائل: هل يمكن أن نستدل لهذا القول بشيء من النص؟
نقول: نعم، قال النبي ﵊ وهو يخطب
_________
(^١) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ٣٨ (٣٩٥).
1 / 5
الناس في عيد الأضحى: "من لم يذبح فليذبح باسم الله" (^١)، أو "فليذبح على اسم الله" (^٢)، فخص الفعل.
لفظ الجلالة: (الله) اسم لله رب العالمين، وهو أعلم الأعلام، أعلم حتى من الضمير؛ لأنه اسم يختص بالله لا يمكن أن يشاركه فيه أحد، ولهذا قالوا: أعرف المعارف على الإطلاق اسم الله؛ لأنه لا يشاركه فيه أحد، والضمير إذا قلت "قمت" فلا يشاركني أحد فيه، لكن صالح أن يستعمله غيري، أما الله فلا الشركة فيه.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ صفتان لله، والرحمن، والرحيم معناهما ذو الرحمة، لكن الرحمن باعتبارها وصفًا لله، والرحيم باعتبارها فعلًا له، ولهذا كان الرحمن عامًّا، والرحيم خاصًّا، قال تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ فالرحمن لوحظ فيه الوصف، والرحيم لوحظ فيه الفعل، ولهذا لما لوحظ في الرحمن الوصف جاء على الأوزان التي تدل على الامتلاء والسعة، فصارت على وزن (فعلان).
والرحمة صفة من صفات الله ﷾ الحقيقية الثابتة له على وجه الحقيقة لا المجاز، وقد أنكرها أهل التعطيل، ومنهم الأشاعرة، وقالوا: إنه ليس لله صفة هي الرحمة؛ لأن الرحمة رقة ولين، وهذا لا يليق بالله ﷿، وفسروها إما
_________
(^١) أخرجه البخاري، كتاب العيدين، باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد (٩٨٥) ومسلم كتاب الأضاحي، باب وقتها ١ (١٩٦٠).
(^٢) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح والصيد، باب قوله ﷺ: "فليذبح على اسم الله" (٥٥٠٠)، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها (١٩٦٠).
1 / 6
بالإرادة، لأنهم يؤمنون بالإرادة، وإما بالفعل؛ لأن الفعل منفصل عن الفاعل، -يعني المفعول منفصل عن الفاعل- فهم يفسرونها: إما بالإحسان وهو مخلوق منفصل، وإما بإرادة الإحسان؛ لأنهم يقرون بالإرادة، ولا شك أن قولهم هذا باطل، وأنه إنكار صفة من أعظم صفات الله ﷿ وهي من أبرز صفاته، فقد قال الله تعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي" (^١) والعجب كل العجب أنهم يقولون: إن الإرادة دل عليها العقل، والرحمة دل العقل على انتفائها، قالوا: لأن التخصيص دال على الإرادة، فمثلًا هذه سماء، وهذه أرض، وهذه شمس، وهذا قمر، إلى آخره، يدل على الإرادة لأنه لا مخصص إلا بإرادة، أما الرحمة فيقولون: إن العقل لا يدل عليها، بل يدل على انتفائها.
فنقول: عجبًا لكم، دلالة العقل على الرحمة أبلغ وأظهر وأوضح من دلالته على الإرادة، ولهذا جعلتم دلالة العقل على الإرادة بالتخصيص، وهذا لا يفهمه إلا خواص النالس، فلو سألت طالب العلم بدون أن يعرف البحث ما استدل بالتخصيص على الإرادة وهو طالب علم، لكن الرحمة كل يعرف أن لله تعالى رحمة، ويستدل عليها بالعقل، تأتي العامي في السوق فنقول: نزل المطر، واخضرت الأرض، ورويت الزروع، وما أشبه ذلك، من أين هذا؟ فيقول لك مباشرة: من رحمة الله، فيستدل بالنعم
_________
(^١) أخرجه البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١)﴾ (٧٤٥٣) ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها تغلب غضبه (١٥) (٦٩٧٠).
1 / 7
التي هي من آثار الرحمة على الرحمة، ولكن نسأل الله لنا ولهم الهداية، من لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
قال الله تعالى: ﴿يس (١)﴾ قال المؤلف ﵀: [﴿يس (١)﴾ الله أعلم بمراده به]، ولا شك أن الله أعلم بمراده ومراد غيره، وأعلم بكل شيء، ولكن ما المراد بهذين الحرفين الهجائيين؟ في هذا خلاف بين العلماء -رحمهم الله تعالى-:
القول الأول: ما ذهب إليه المؤلف، ﵀: "الله أعلم بمراده به" أي: لا ندري ماذا أراد الله ﷿.
القول الثاني: أن معنى "يس" يا إنسان فـ "يا" حرف نداء على زعمهم، و"س" كلمة يعبر بها عن الإنسان.
وبعضهم أتي بغير ذلك أيضًا مما لا طائل تحته ولا دليل عليه، لكن يبقي النظر، هل نقول كما قال المؤلف: [الله أعلم بمراده] بجميع الحروف الهجائية التي ابتدأت بها السور، أو نقول إنه لا معنى لها بمقتضى قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)﴾. فإن مقتضى اللسان العربي المبين أن هذه الحروف ليس لها معنى، فإذا حكمنا بهذه القضية العامة ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ على كل كلمة أو حرف في القرآن الكريم فإننا نعلم أن "يس" ليس لها معنى بمقتضى اللسان العربي المبين، فـ "يا"حرف هجاء ليس له معنى، و"س" حرف هجاء ليس له معنى أيضًا، وهذا القول ذكره ابن كثير ﵀ عن مجاهد ﵀ وهو قول قوي، ويشهد له الآية التي استشهدت بها، إذن نقول: لا معنى لهذه الحروف.
1 / 8
فيرد علينا إشكال: إذا قلنا لا معنى لها، فكيف يأتي الله ﷿ في كتابه العظيم بكلام لغو لا معنى له؟
والجواب على هذا أن يقال: إن له مغزىً عظيمًا، هذا المغزى هو أنكم أيها العرب الذين عجزتم عن معارضة القرآن والإتيان بمثله عجزتم عن ذلك، لا لأن القرآن أتى بحروف جديدة، أو كلمات جديدة، بل هو من الكلمات التي تكونون منها كلامكم، حروف هجائية، ولهذا قلَّ أن تجد سورة مبدوءة بهذه الحروف الهجائية إلا وبعدها ذكر القرآن، مما يدل على أن هذا هو المراد بها، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ وقبله الزمخشري أيضًا في تفسيره، وغيرهم من العلماء، على أن هذه حروف هجائية جيء بها لأجل إظهار عجز العرب عن معارضة هذا القرآن، مع أنه لم يأت بجديد في كلامهم.
﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)﴾ الواو للقسم فلها معنى، ولها عمل، عملها الجر، ومعناها التأكيد، والقسم: تأكيد الشيء بذكر معظم على صورة مخصوصة، ولابد أن يكون المحلوف به معظمًا ولو تقديرًا في ذهن المقسم، كأن المقسم المعظم يقول: بقدر تعظيمي لهذا الشيء وتأكدي منه وإثباتي له أؤكد المحلوف عليه.
ولهذا لابد أن يكون المحلوف به معظمًا، وإلا لكان الحلف لا فائدة منه. ثم قد يكون عظيمًا في ذاته حقيقة، وقد يكون معظمًا باعتبار المقسم به، فالذين يحلفون باللات والعزى يحلفون بمعظم لا بعظيم؛ لأنه معظم عندهم، لكنه ليس بعظيم في نفسه، والذين يقسمون بالله وآياته، يحلفون بعظيم وبمعظم في قلوبهم،
1 / 9
وهو معظم في نفسه. ﴿وَالْقُرْآنِ﴾، القرآن المراد هذا القرآن الذي نقرأه كلام الله ﷿، وهو مشتق من قرأ بمعنى تلا لأنه متلو، أو من قرى بمعنى جمع؛ لأنه مجموع وجامع، فهو مشتق من المعنيين، من القراءة بمعنى التلاوة، ومن قرى بمعنى جمع، ومنه القرية لأنها مجتمع الناس، فالقرآن جامع بين المعنيين فهو متلو، وجامع ومجموع، كلمات مجموع بعضها إلى بعض، كلام جامع لكل ما فيه الخير والصلاح.
قوله: ﴿الْحَكِيمِ﴾ صفة للقرآن وهي بمعنى محكِم، أو بمعنى مُحْكَم، أو بمعنى حاكم كلها تحتمل، فالقرآن حاكم لأنه يجب الرجوع إليه ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (^١) ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)﴾ (^٢) على القول بأن القرآن مُحْكِم، لأنه متقن للأشياء ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ (^٣) وكذلك أيضًا مُحْكَم؛ لأن الله تعالى أحكمه وأتقنه، فليس فيه تناقض ولا تعارض ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (^٤) وهو أيضًا مشتمل على الحكمة، ففيه معنى الحكمة والحكم، وإذا كان حكيمًا فإننا نعلم أنه:
أولًا: حكيم في ترتيبه، فكل آية إلى جنب الأخري حتى وإن ظننا أنه لا ارتباط بينهما، فإنما ذلك إما لقصورنا أو
_________
(^١) سورة النساء، الآية: ٥٩.
(^٢) سورة الجاثية، الآية: ٢٩.
(^٣) سورة الأنعام، الآية: ١١٥.
(^٤) سورة النساء، الآية: ٨٢.
1 / 10
لتقصيرنا، فمثلًا لو قال قائل: قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨)﴾ (^١) جاء في سياق آيات العدد فما هو الارتباط؟
نقول: إنه لابد أن هناك حكمة، لكن قصرت أفهامنا عنها، أو قصرنا في التدبر لطلبها ومراجعة كتب أهل العلم.
ثانيًا: حكيم في أحكامه، فأحكامه كلها عدل، موافقة للفطرة وللعقل الصريح، ولهذا لا تجد شيئًا من أحكام القرآن مناقضًا للفطرة أبدًا، بل هو موافق للفطرة، ولا تجد شيئًا في القرآن يكذبه العقل، أو يحيله أبدًا، بل إن العقل يقرر في الجملة ما جاء به القرآن.
ثالثًا: حكيم في أسلوبه يشتد في مواضع الشدة، ويلين في مواضع اللين، ويأتي بأساليب غريبة ما كانت معروفة في أساليب العرب، فبينما الآية سياقها خبري إذا بها تنتقل إلى سياق إنشائي من استفهام، أو نهي، أو أمر، أو ما أشبه ذلك، وكل هذا من الحكمة، بينما القرآن يتحدث بصيغة الغائب إذا به ينتقل إلى صيغة الحاضر، فينتقل من أسلوب إلى آخر، وهو ما يسمي بالالتفات، وأنواع هذا كثيرة في القرآن.
فالقرآن حكيم بكل معنى الحكمة، وبكل معنى الإحكام، وبكل معنى الحكم.
قال المؤلف -مقتصرًا على واحد منها-: [المُحْكَم بعجيب النظم، وبديع المعاني]، فأتى بمعنى واحد من معاني الحكيم،
_________
(^١) سورة البقرة، الآية: ٢٣٨.
1 / 11
ونحن ذكرنا أشياء: ذو حكمة، ومُحْكِم، ومُحْكَم، وحاكم، فذكرنا أنه حاكم، وذو حكمة وحكم وإحكام، فيشمل أعم مما قاله المؤلف.
وإقسام الله تعالى بكتابه العظيم أو بكتابه الحكيم يدل على عظم هذا القرآن وعلى عظم ما جاء به من الأحكام والحكمة والحُكم، ثم ذكر المقسم عليه فقال: ﴿إِنَّكَ﴾ أي يا محمد ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ فأقسم الله تعالى بكتابه على أن محمدًا ﷺ من المرسلين، وقوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ لأنه سبقه الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو خاتم الرسل ﵊، وأكملهم شريعة، جاء ليتم مكارم الأخلاق، وقد شبه النبي ﷺ رسالته برجل بنى قصرًا وأشاده وبقي موضع لبنة، فصار الناس يطوفون به، ويتعجبون منه إلا موضع هذه اللبنة قال: "فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" (^١)، والجملة ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، وإن، واللام.
قال المؤلف: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلَى﴾ متعلق بما قبله]، الذي قبله ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾، مرسل اسم مفعول صالح للعمل؛ لأن يتعلق به المعمول، فالمعنى: "إنك لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم" لأن جميع الرسل على صراط مستقيم بلا شك، ولكن يحتمل وجهًا آخر أحسن مما قال المؤلف، وهو أن تكون ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ خبرًا ثانيًا لـ (إن)، أي: إنك على صراط
_________
(^١) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب خاتم النبيين ﷺ (٣٥٣٥) ومسلم، كتاب الفضائل، باب ذكر كونه ﷺ خاتم النبيين (٢٢) (٢٢٨٦).
1 / 12
مستقيم، وهذا أنسب، ويشهد له قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ (^١).
فالوجه الثاني في إعراب ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ أنها خبر ثان لـ (إن)، وقوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ قال المؤلف: [أي طريق الأنبياء قبلك التوحيد والهدي، والتأكيد بالقسم وغيره رد لقول الكفار له: لست مرسلًا]، كما قال الله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا﴾ (^٢) إذن فالكلام مطابق لمقتضي الحال؛ لأنه يخاطب المنكر، وقد سبق لنا في البلاغة أن للمخاطب ثلاث مراحل: أن يكون منكرًا، أو أن يكون مترددًا، أو أن لا يكون في ذهنه شيء لا إنكار ولا تردد، قالوا: فإن كان منكرًا وجب تأكيد الخبر له، وإن كان مترددًا حسن أن يؤكد له الخبر، وإن لم يكن في قلبه وذهنه شيء، فإنك تلقي إليه الخبر غير مؤكد هذا هو الأصل. فتخاطب إنسانًا ليس في ذهنه شيء عن مدلول الخبر فألق الخبر إليه غير مؤكد، تقول: زيد قائم، وإذا كنت تخاطب مترددًا في صحة الخبر فأكده له استحسانًا، وإذا كنت تخاطب منكرًا فإنه يجب أن تؤكد له الخبر. هذا هو الأصل، وقد يحذف التوكيد في موضع التوكيد، وقد يأتي التوكيد في غير موضع التوكيد لأسباب تعوف من السياق. فهنا الكفار يقولون: لست مرسلًا. فكان تأكيد خبر الرسالة لهم واجبًا يعني مما توجبه البلاغة، والوجوب هنا ليس وجوب التكليف الذي يأثم بتركه، بل
_________
(^١) سورة الشوري، الآيتان: ٥٢، ٥٣.
(^٢) سورة الرعد، الآية: ٤٣.
1 / 13
وجوب من حيث البلاغة.
﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ الصراط فعال بمعنى مفعول؛ لأن فعالًا تأتي بمعنى مفعول كثيرًا، كقولهم: بناء، وغراس، وفراش، بمعنى: مبني، مغروس، مفروش، فصراط فعال بمعنى مفعول أي: مصروط، والصراط: المرور بسرعة، ومنه قولهم: "صرط اللقمة" أي ابتلعها بسرعة، وفي اللهجة العامية عندنا نقول: "زرط" وهي لغة عربية في صراط، و"سراط" بالسين و"زراط" بالزاي فكلها لغة عربية، والصراط لا يكون صراطًا إلا إذا كان طريقًا واسعًا يتحمل طوائف يعبرون عليه، قالوا: أيضًا من صفاته أن يكون مستويًا ليس فيه طلوع ولا نزول ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ صفة له مؤكدة، أي: أنه لا اعوجاج فيه، ولا شك أن ما جاء به الرسول ﵊ صراط مستقيم، لأنه طريق واسع يسع كل الأمة منذ بعث إلى أن تقوم الساعة لا يمكن أن يضيق، وهو أيضًا صراط واسع لا يمكن أبدًا أن يضيق عن الأحكام الشرعية، فكل حادثة تنزل منذ بعث الرسول ﷺ إلى يوم القيامة لابد أن يوجد حل لمشكلتها -إن كانت مشكلة- فيما جاء به الرسول ﵊، ولذلك نقول: إن هذا الشرع في القرآن والسنة كامل لا يحتاج إلى تكميل، وهو أيضًا واسمع لا يمكن أن يضيق بأي جزئية تقع إلى يوم القيامة، إذن ليس هناك مشكل في الشريعة، لكن الإشكال إنما يأتي من قبل الناس: إما لقصور في الفهم، أو لتقصير في طلب العلم والهدي، أو الأشياء رانت على قلوبهم فأظلمتها حتى لا تبصر الحق، فقد يكون
1 / 14
الإنسان غير مقصر ولا قاصر، عنده فهم قوي، وعنده آلة قوية وعلم، لكن يكون على قلبه ذنوب تحول بينه وبين رؤية الصواب، ولهذا ينبغي للإنسان إذا أشكل عليه مسألة من المسائل بعد المراجعة والتتبع لكلام أهل العلم أن يكثر من الاستغفار؛ لأن الاستغفار يمحو الله به الخطايا فيكون القلب مستنيرًا، وربما يستنبط هذا من قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (١٠٦)﴾ (^١) ويستدل له أيضًا بقوله تعالى: ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)﴾ (^٢). فالذنوب منعت القلوب أن تري أحقية هذا الكتاب حتى قال القائل: إنها ﴿أساطير الأولين﴾ فهذا الدين صراط مستقيم واسع، يسع جميع الناس إذا دخلوه، وواسع يشمل جميع أحكام الحوادث والنوازل منذ بعث الرسول ﷺ إلى أن تقوم الساعة، ولكن الإشكال الذي يكون إما من قصورنا، أو تقصيرنا، أو من أمور رانت على القلوب فلا تري الحق.
* في الآيات الكريمات فوائد منها:
١ - بيان أن هذا القرآن الذي أعجز البشر لم يكن بدعًا من لسانهم، وإنما من الحروف التي يركبون منها كلامهم، يشير إلى هذا قوله: ﴿يس (١)﴾ ولهذا لا تأتي هذه الحروف الهجائية في أول السورة إلا وجدت بعدها ذكر القرآن في الغالب.
_________
(^١) سورة النساء، الآيتان: ١٠٥، ١٠٦.
(^٢) سورة المطففين، الآيتان: ١٣، ١٤.
1 / 15
٢ - ومن فوائدها: عظمة القرآن العظيم؛ لأن الله تعالى أقسم به، ولا يقسم إلا بشيء معظم. والقرآن الكريم عظيم في نفسه.
٣ - ومن فوائدها: الثناء على القرآن بأنه حكيم على الوجوه الثلاثة التي ذكرناها عند قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢)﴾.
٤ - من فوائدها: العناية بإثبات رسالة النبي ﷺ؛ لأن الله تعالى أقسم عليها، وأكدها زيادة على القسم بإن واللام.
٥ - ثبوت رسالة النبي ﷺ فمن أنكرها فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، ورسوله، وإجماع المسلمين.
٦ - من فوائدها: إثبات الرسل وأن ثمة رسلًا غير محمد ﷺ لقوله هنا: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣)﴾ ولهذا قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ (^١) يعني لست أول رسول فإنه ﷺ قد سبقه رسل من قبله.
٧ - من فوائدها: أن ما جاء به النبي ﷺ من الشرع فهو الصراط المستقيم، لقوله: ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)﴾ والصراط المخالف للشرع فيه من العوج والشر بمقدار ما خالف شريعة النبي ﷺ.
* * *
﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)﴾ ﴿تَنْزِيلَ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو. أي: القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وتنزيل مصدر نزل ينزل، والقرآن منزَّل يعني ينزل شيئًا فشيئًا كما قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا
_________
(^١) سورة الأحقاف، الآية: ٩.
1 / 16
فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (١٠٦)﴾ (^١) فإنه ينزل شيئًا فشيئًا، ويعبر أحيانًا عن القرآن بأنه أنزل باعتبار نهايته، فإنه باعتبار النهاية يكون نزل كله، وباعتبار التدريِج في تنزيله يكون منزلًا، وهكذا في القران نزول المطر، أحيانا يقول: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ (^٢) وأحيانًا يقول: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ (^٣) فباعتبار أن المطر ينزل شيئًا فشيئًا يقال: "نزلنا" وباعتبار النهاية واجتماعه كله يقال: "أنزلنا" وقوله: ﴿الْعَزِيزُ﴾ قال المؤلف: [في ملكه] يعني الغالب في ملكه الذي لا يغلب فيه، وقد مر علينا في باب العقيدة أن العزيز من أسماء الله، وأن العزة لها ثلاثة معانٍ: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع.
فعزة القدر بمعنى أنه ذو قدر عظيم رفيع، وعزة القهر بمعنى أنه قاهر غالب، وعزة الامتناع أي أنه قوي لا يناله شيء، قال ابن القيم ﵀:
وهو العزيز فلن يرام جنابه ... أني يرام جناب ذي السلطان
فالله ﷿ عزيز ممتنع أن يناله السوء، ومنه (الأرض العزاز) لقوتها وشدتها فقول المؤلف: [العزيز: في ملكه] فيه قصور، قال المؤلف: [الرحيم: بخلقه] وهنا نقول: إن الرحيم عامة، لأنها لم تقيد، فالمراد به الرحمة العامة، فالله سبحانه
_________
(^١) سورة الإسراء، الآية: ١٠٦.
(^٢) سورة ق، الآية: ٩.
(^٣) سورة الرعد، الآية: ١٧.
1 / 17
وتعالى رحيم بخلقه كلهم، ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾ (^١) حتى الكافر يرزقه الله تعالى العقل، والصحة، والأولاد، والمال، والأزواج، لكن هذه رحمة عامة، أما الرحمة الخاصة بالمؤمنين ففي قوله تعالى: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)﴾ (^٢) وهنا أضاف تنزيل القرآن إلى هذين الاسمين، ﴿الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ إشارة إلى وجوب العمل بما جاء في القرآن، وأن من لم يعمل به فإن أمامه العزيز الذي يأخذه أخذ عزيز مقتدر، والرحيم إشارة إلى أن هذا القرآن إنزاله من مقتضى رحمته ﷾ بخلقه؛ لأن الله تعالى ما رحم خلقه رحمة أعظم من إنزال القرآن الكريم؛ لأن به الحياة القلبية والبدنية، والفردية والاجتماعية، ففيه تهديد للذين يخالفون هذا القرآن بأنه نزل من عند عزيز ينتقم ممن خالفه. ورحيم: إشارة إلى أن هذا القرآن من مقتضى رحمته ﷾، قال المؤلف ﵀: [خبر مبتدأ مقدر، أي: القرآن] يعني بخبر مبتدأ مقدر ﴿تَنْزِيلَ﴾ بالرفع أي: القرآن، والتقدير: القرآن تنزيلُ العزيز الرحيم، وفي قراءة سبعية ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾ وعلى هذه القراءة يكون منصوبًا على أنه مصدر عامله محذوف، يعني نزل تنزيل العزيز الرحيم.
* الفوائد:
١ - أن القرآن منزل من عند الله لقوله: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ
_________
(^١) سورة هود، الآية: ٦.
(^٢) سورة الأحزاب، الآية: ٤٣.
1 / 18
الرَّحِيمِ (٥)﴾.
٢ - يستفاد منها أن القرآن كلام الله غير مخلوق.
٣ - إثبات علو الله لقوله: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ﴾ والنزول لا يكون إلا من أعلى، وعلو الله ﷿ دل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة، كل هذه الأنواع الخمسة من الأدلة دلت على علو الله ﷿.
٤ - ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العزيز والرحيم اسمين من أسماء الله، وإثبات ما تضمناه من الوصف، وما تضمنه الرحيم من الأثر وهو الحكم، والعزيز في بعض معانيه وهو الغالب.
٥ - ومن فوائد الآية: إنذار المخالفين لهذا القرآن وذلك بإضافة ﴿تَنْزِيلَ﴾ إلى العزيز؛ لأنه إذا قيل: جاء هذا من عزيز، دل على إنذار من خالفه وتحذيره، فيكون في هذا الإنذار والتحذير من مخالفة هذا المنِزل؛ لأنه نزل من عزيز.
٦ - أن القرآن بل أن الشرع كله من آثار رحمة الله لقوله: ﴿تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)﴾.
فإن قلت: أين الرحمة في قطع يد السارق؟ وفي رجم الزاني المحصن؟ وفي قتل القاتل؟ وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن الرحمة في ذلك واضحة جدًا، فقطع يد السارق فيها رحمة بالسارق وغيره، رحمة بالسارق لتردعه عن السرقة مرة أخرى، ولتكون كفارة لذنبه؛ لأن الحدود كفارة، يكفر بها عن فاعلها، وفيها أيضًا إصلاح المجتمع وحمايته من
1 / 19
الفوضى، فهذه رحمة، وكذلك نقول في بقية الحدود والقصاص إنه من رحمة الله ﷿.
* * *
﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (٦)﴾ قال المؤلف: [﴿لِتُنْذِرَ﴾ به ﴿قَوْمًا﴾ متعلق بتنزيل]. ﴿لِتُنْذِرَ﴾ اللام هذه تسمى لام التعليل، والفعل بعدها منصوب باللام، وعلى مذهب البصريين منصوب بأن مضمرة بعد اللام، وعلى كل حال فهي تحتاج إلى متعلق، ومتعلقها قوله: ﴿تَنْزِيلَ﴾ يعني إنما نزل لتنذر قومًا ما أُنذر آباؤهم فهم غافلون. "تنذر": قال العلماء: الإنذار هو الإخبار المقرون بالتخويف، أو المتضمن للتخويف، فالإنسان مثلًا يأتي إلى قوم يصيح بهم: العدو، العدو. يقال: هذا منذر ونذير، فالنذير عن شيء يخوف، فهو إعلام متضمن للتخويف، هذا القرآن أنزله الله ﷿ لينذر النبي ﷺ به ﴿قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ﴾ أي: لم ينذروا في زمن الفترة وعلى هذا فـ (ما) نافية، يعني: لتنذر قومًا لم ينذروا ولم يخوفوا، لكن هذا في زمن الفترة، وأما قبل فقد أنذروا بواسطة إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، فإنه مرسل إلى العرب إلى قومه، وبعد ذلك لم ينذر هؤلاء، قال بعض المعربين الذين يجمعون الأقوال -صحت أو لم تصح أي أنهم يقولون أي احتمال- قالوا: ويجوز أن تكون "ما" موصولة، أي: (لتنذر قومًا الذي أنذره آباؤهم) فيجعلون ما موصولة، ويجعلون العائد محذوفًا تقديره (الذي أُنذره آباؤهم) أي: لتنذرهم الذي أُنذره آباؤهم، ولكن هذا وإن كان محتملًا من
1 / 20
قبل اللفظ، لكن بعيد من جهة المعني، لأن الآيات الكثيرة المتعددة تدل على أن قريشًا الذين بعث فيهم النبي محمد ﷺ لم يُنذر آباؤهم، ومنه قوله تعالى في سورة "الم" السجدة: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (^١) وهذا صريح في أن "ما" هنا للنفي لا غير. قال المؤلف ﵀ ﴿فَهُمْ﴾ أي: القوم ﴿غَافِلُونَ (٦)﴾ عن الإيمان والرشد] غافلون لأنهم ما أتاهم نذير، ومعلوم أن النذر توجب حياة القلوب والانتباه، ولهذا تجد الإنسان نفسه إذا لم يأته واعظ يغفل وتكثر فيه الغفلة، فإذا أتاه واعظ فكأنما أيقظه من نوم، هؤلاء لما تطاول عليهم الأمد ولم يأتهم نذير، غفلوا وكأنهم ما خلقوا لعبادة الله، وجعلوا لهم أصنامًا يعبدونها من دون الله، ويركعون لها، ويسجدون، وينذرون ويوفون، فهم غافلون لعدم من يوقظهم، ولكن من هؤلاء الذين في زمن الفترة من عنده علم من الرسالة لكنه عاند وبقي على ما كان عليه آباؤه، كالذين شهد لهم النبي ﷺ بالنار، فالذين شهد لهم النبي ﷺ بالنار نعلم علم اليقين أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة ولولا ذلك ما كانوا من أهل النار، فأهل الفترة نوعان:
نوع علمنا من شهادة النبي ﷺ أنه قد بلغتهم الرسالة لحكم الرسول ﷺ عليهم بأنهم من أهل النار.
ونوع لا ندري عنهم شيئًا، فالواجب علينا أن نتوقف في أمرهم، وأن نقول: الله أعلم بما كانوا عاملين.
_________
(^١) سورة السجدة، الآية: ٣.
1 / 21