Tafsīr al-Shaʿrāwī
تفسير الشعراوي
Genres
إذن فلابد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لابد ألا ينتفع به ، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا " هدى " فالواضع سينتفع به، ورأينا ذلك رأي العين فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المذهب الشيوعي، والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع مذهب الرأسمالية، مذاهب نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يبرأ أحد من فلاسفة المذاهب نفسه من الهوى: الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد من يشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط. والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائما، نعدله. إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لابد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى:
ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله..
[الأنعام: 153]. ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة، ولذلك أقول: افطنوا جيدا إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، { هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان } [البقرة: 185]. والقرآن في جملته " هدى " والفرقان هو أن يضع فارقا في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل. ويقول الحق: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185]، وحين تجد تعقيبا على قضية فافهم أن من شهد منكم الشهر فليصمه ولابد أن تقدر من شهد الشهر فليصمه إن كان غير مريض، وإن كان غير مسافر، لابد من هذا ما دام الحق قد جاء بالحكم. و " شهد " هذه تنقسم قسمين: " فمن شهد " أي من حضر الشهر وأدركه وهو غير مريض وغير مسافر أي مقيم، { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185].
ونريد أن نفهم النص بعقلية من يستقبل الكلام من إله حكيم، إن قول الله: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185]. تعقيب على ماذا؟ تعقيب على أنه أعفى المريض وأعفى المسافر من الصيام، فكأن الله يريد بكم اليسر، فكأنك لو خالفت ذلك لأردت الله معسرا لا ميسرا والله لا يمكن أن يكون كذلك، بل أنت الذي تكون معسرا على نفسك، فإن كان الصوم له قداسة عندك، ولا تريد أن تكون أسوة فلا تفطر أمام الناس، والتزم بقول الله: { فعدة من أيام أخر } [البقرة: 185] لأنك لو جنحت إلى ذلك لجعلت الحكم في نطاق التعسير، فنقول لك: لا، إن الله يريد بك اليسر، فهل أنت مع العبادة أم أنت مع المعبود؟ أنت مع المعبود بطبيعة الإيمان. ومثال آخر نجده في حياتنا: هناك من يأتي ليؤذن ثم بعد الأذان يجهر بقوله: " الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله " يقول: إن هذا حب لرسول الله، لكن هل أنت تحب الرسول إلا بما شرع؟ إنه قد قال:
" إذا سمعت النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن ثم صلوا علي "
فقد سمح الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يؤذن ولمن يسمع أن يصلي عليه في السر، لا أن يأتي بصوت الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصيلة ونصلي على النبي، لأن الناس قد يختلط عليها، وقد يفهم بعضهم أن ذلك من أصول الأذان. إنني أقول لمن يفعل ذلك: يا أخي، ألا توجد صلاة مقبولة على النبي إلا المجهور بها؟ لا، إن لك أن تصلي على النبي، لكن في سرك. وكذلك إن جاء من يفطر في رمضان لأنه مريض أو على سفر، نقول له: استتر، حتى لا تكون أسوة سيئة لأن الناس لا تعرف أنك مريض أو على سفر، استتر كي لا يقول الناس: إن مسلما أفطر. ويقول الحق: { ولتكملوا العدة } [البقرة: 185] فمعناها كي لا تفوتكم أيام من الصيام. انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: { ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون } [البقرة: 185]. إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقا يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه لأن معنى { ولتكبروا الله } [البقرة: 185] يعني أن تقول: " الله أكبر " وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقومات الحياة وهو الإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها.
وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقا من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبوابا وفصولا ومواد كلها مع بعضها، ويفصل كل باب بفصوله ومواده، وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبوابا، وإنما يريد الدين وحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: " ولتكبروا الله " ب " ولعلكم تشكرون " ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب " الله أكبر " لأن الله أسدى إليكم جميلا، وساعة يوجد الصفاء بين " العابد " وهو الإنسان و " المعبود " وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان... }.
[2.186]
وما دمت قد ذقت حلاوة ما أعطاك الحق من إشراقات صفائية في الصيام فأنت ستتجه إلى شكره سبحانه، وهذا يناسب أن يرد عليك الحق فيقول: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [البقرة: 186] ونلحظ أن " إذا " جاءت، ولم تأتي " إن " فالحق يؤكد لك أنك بعدما ترى هذه الحلاوة ستشكر الله لأنه سبحانه يقول في الحديث القدسي:
" ثلاثة لا ترد دعوتهم، الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ".
Unknown page