انتقل الله سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى تأكيد صدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام.. وأن الآيات فيها واضحة بحيث إن كل إنسان يعقل ويريد الإيمان يؤمن بها.. ولكن الذين يريدون الفسق والفجور.. هم هؤلاء الذين لا يؤمنون.. ما معنى الآيات البينات؟ إن الآية هي الأمر العجيب.. وهو عجيب لأنه معجز.. والآيات معجزات للرسول تدل على صدق بلاغه عن الله.. وهي كذلك الآيات في القرآن الكريم.. وبينات معناها أنها أمور واضحة لا يختلف عليها ولا تحتاج إلى بيان: { وما يكفر بهآ إلا الفاسقون } [البقرة: 99].. والفسق هو الخروج عن الطاعة وهي مأخوذة من الرطبة.. البلح قبل أن يصبح رطبا لا تستطيع أن تنزع قشرته ولكن عندما يصبح رطبة تجد أن القشرة تبتعد عن الثمرة فيقال فسقت الرطبة.. ولذلك من يخرج عن منهج الله يقال له فاسق. والمعنى أن الآيات التي أيد بها الله سبحانه وتعالى محمدا عليه الصلاة والسلام ظاهرة أمام الكفار ليست محتاجة إلى دليل.. فرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يقرأ كلمة في حياته.. يأتي بهذا القرآن المعجز لفظا ومعنى.. هذه معجزة ظاهرة لا تحتاج إلى دليل.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا تغريه الدنيا كلها.. ليترك هذا الدين مهما أعطوه.. دليل على أنه صاحب مبدأ ورسالة من السماء.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبر بقرآن موحى من السماء عن نتيجة حرب ستقع بعد تسع سنوات.. ويخبر الكفار والمنافقين بما في قلوبهم ويفضحهم.. ويتنبأ بأحداث قادمة وبقوانين الكون.. وغير ذلك مما احتواه القرآن المعجز من كل أنواع الإعجاز علميا وفلكيا وكونيا.. كل هذه آيات بينات يتحدى القرآن بها الكفار.. كلها آيات واضحة لا يمكن أن يكفر بها إلا الذي يريد أن يخرج عن منهج الله، ويفعل ما تهواه نفسه.. إن الإعجاز في الكون وفي القرآن وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. كل هذا لا يحتاج إلا لمجرد فكر محايد.. لنعرف أن هذا القرآن هو من عند الله مليء بالمعجزات لغة وعلما.. وإنه سيظل معجزة لكل جيل له عطاء جديد.
[2.100]
بعد أن بين الحق سبحانه وتعالى أن الدين الإسلامي، وكتابه القرآن فيه من الآيات الواضحة ما يجعل الإيمان به لا يحتاج إلا إلى وقفة مع العقل، مما يجعل موقف العداء الذي يقفه اليهود من الإسلام منافيا لكل العهود التي أخذت عليهم، منافيا للإيمان الفطري، ومنافيا لأنهم عاهدوا الله ألا يكتموا ما جاء في التوراة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لعهدهم أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنافيا لما طلب منهم موسى أن يؤمنوا بالإسلام عندما يأتي الرسول، مصداقا لقوله تعالى :
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين
[آل عمران: 81]. وهكذا نعرف أن موسى عليه السلام الذي أخذ عليه الميثاق قد أبلغه إلى بني إسرائيل، وأن بني إسرائيل كانوا يعرفون هذا الميثاق جيدا عند بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عندهم أوصاف دقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام.. ولكنهم نقضوه كما نقضوا كثيرا من المواثيق.. منها عهدهم بعدم العمل في السبت، وكيف تحايلوا على أمر الله بأن صنعوا مصايد للأسماك تدخل فيها ولا تستطيع الخروج وهذا تحايل على أمر الله، ثم كان ميثاقهم في الإيمان بالله إلها واحدا أحدا، ثم عبدوا العجل.. وكان قولهم لموسى عليه السلام بعد أن أمرهم الله بدخول واد فيه زرع.. لأنهم أرادوا أن يأكلوا من نبات الأرض بدلا من المن والسلوى التي كانت تأتيهم من السماء.. قالوا لموسى:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون
[المائدة: 24].. وغير ذلك الكثير من المواثيق بالنسبة للحرب والأسرى والعبادة، حتى عندما رفع الله تبارك وتعالى جبل الطور فوقهم ودخل في قلوبهم الرعب وظنوا أنه واقع عليهم، ولم يكن هذا إلا ظنا وليس حقيقة.. لأن الله تبارك وتعالى يقول:
وظنوا أنه واقع بهم
[الأعراف: 171].. وبمجرد ابتعادهم عن جبل الطور نقضوا الميثاق. ثم نقضوا عهدهم وميثاقهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما هاجر إلى المدينة وذلك في غزوة الخندق.. وعندما أرادوا أن يفتحوا طريقا للكفار ليضربوا جيوش المؤمنين من الخلف. قوله تعالى { نبذه فريق منهم } [البقرة: 100] قلنا إن هذا يسمى قانون صيانة الاحتمال.. لأن منهم من صان المواثيق.. ومنهم من صدق ما عهد الله عليه.. ومنهم مثلا من كان يريد أن يعتنق الدين الجديد ويؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام. إذن فليسوا كلهم حتى لا يقال هذا على مطلق اليهود.. لأن فيهم أناسا لم ينقضوا العهد.. ويريد الله تبارك وتعالى أن يفتح الباب أمام أولئك الذين يريدون الإيمان، حتى لا يقولوا لقد حكم الله علينا حكما مطلقا ونحن نريد أن نؤمن ونحافظ على العهد، ولكن هؤلاء الذين حافظوا على العهد كانوا قلة.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: { بل أكثرهم لا يؤمنون } [البقرة: 100].. أي أن الفريق الناقض للعهد.. الناقض للإيمان هم الأكثرية من بني إسرائيل.
[2.101]
Unknown page