84

مكاشفة

[استعارة الالفاظ للايصال الى المعانى العرفانية]

اعلم أن تمام التحقيق في هذه الآية، يحتاج الى الاستمداد من بحر عظيم من بحار علوم المكاشفة، فنقول على طبق ما حققه صاحب البصيرة المكحلة بنور الهداية: إن لله في جلاله وكبريائه صفة بها يفيض على الخلق نور حكمته وجوده تكوينا واختراعا، يعبر عنها بلفظ، جلت عظمة تلك الصفة أن تكون في عالم الألفاظ عبارة تدل على كنه حقيقتها، لعلو شأنها، وانحطاط رتبة واضعي اللغات أن يمتد طرفهم إلى مبادي إشراقاتها، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم انخفاض أبصار الخفافيش عن ذروة الشمس، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها، إلى ان يستعيروا من حضيض عالم الظلمات عبارة توهم من مبادي أنوار حقيقتها شيئا ضعيفا جدا، فاستعاروا لها لفظ " القدرة " فتجاسرنا بتوقيف من جانب الشرع أن لله صفة يصدر عنها الخلق والاختراع، ثم الخلق ينقسم في الوجود تقسيما عقليا إلى أقسام، لتنوعات فصول ومبادي انقسام، فاستعير لمصدر هذه الأقسام ومبدء هذه التخصيصات بمثل تلك الضرورة الواقعة في عالم الألفاظ والأصوات عبارة " المشية " ، ثم انقسمت الأفعال الصادرة من القدرة المنبعثة عن المشية الناشية عن الحكمة التي هي علمه بالنظام الأكمل وهو عين ذاته، إلى ما ينساق الى المنتهى الذي هو غاية حكمتها الى ما يوقف به دون الغاية، وكان لكل منهما نسبة الى صفة المشية لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها يتم الاختلاف والقسمة، فاستعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبوب، وهو المنعم عليه، ولنسبة الواقف دون غايته عبارة المكروه، وهو المغضوب عليه.

وقيل: إنهما جميعا داخلان تحت المشية، إلا ان لكل منهما خاصية أخرى في النسبة، يوهم لفظ المحبة والكراهة منهما أمرا مجملا عند طلاب اكتساب العلوم من اطلاقات الألفاظ واللغات.

ثم نقول: لما كان لكل منهما خاصية لازمة تكون مقتضى ذاته من غير تخلل جعل مستأنف بينه وبينها، وهي مستدعية لأن تنزل إليه من سلطان الأزل لباسا يناسبه ويرد عليه من المشية السابقة كسوة ملائمة، فانقسم عباده الذين هم أيضا من خلقه واختراعه، إلى من سبقت له في المشية الأزلية أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهرا في حقهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته الى غايتها في بعض الأمور، ويكون ذلك لطفا في حقهم.

فكان لكل من الفريقين نسبة خاصة إلى المشية، فاستعير لإحداهما عبارة " الرضا " وللأخرى عبارة " الغضب ".

وظهر على من غضب عليه في الأزل فعل وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له " الكفران " ، واردف ذلك بنقمة اللعن زيادة في النكال.

وظهر على من ارتضاه في الأزل فعل انساقت به الحكمة الى غايتها، فاستعير له الشكر، واردف بخلعة الثناء زيادة في الرضاء والقبول.

فكان الحاصل انه أعطى الجمال ثم أثنى عليه، وأعطى النكال ثم قبح وأردى، فيكون بالحقيقة هو المجمل والمثني على الجمال، والمثنى عليه بكل حال.

وكأنه لم يثن إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر، فهكذا كانت الأمور في أزل الآزال، وهكذا تسلسلت الأسباب بتقدير رب الأرباب، ولم يكن شيء من ذلك عن اتفاق وبخت كما زعمه أصحاب ذيمقراطيس. ولا عن إرادة بحت من دون غاية وحكمة كما عليه أصحاب الأشعري، بل عن إرادة وحكمة وحكم جزم، وأمر حتم، استعير له لفظ " القضاء ".

Unknown page