وأما ان مفهوم لفظ الله هل له حد أم لا؟ فالحق هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكمالية، فكل معنى من معاني أسماء الله يكون جزءا لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرر أن الفرق بين الحد والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلا بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية.
وليس من شرط الحد أن يكون مؤلفا من جنس وفصل من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعض مطلقا، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا ان المشهور أن الحد لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعية الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلا كذلك.
والحق أن كل اسم وضع لمعنى واحد جملي متألف من معان متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدل عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدودا والثاني حدا، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإن نسبتها إليه نسبة الحد إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرة إجمالا ومرة تفصيلا، وهذا مما لا يخل ببساطة الذات المقدسة، وأحدية الوجود القيومي تعالى عن التصور والتمثل والتخيل والتعقل لغيره فإن كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحية، فهي خارجة عن ساحة جناب العز والكبرياء، وانما يجد الذهن سبيلا إليها من ملاحظة مظاهرها ومجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومحاكيها.
قال في الفص النحوي: إن للحق في كل خلق ظهورا خاصا. فهو الظاهر في كل مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إن العالم صورته وهويته. وهو الاسم الظاهر، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالم نسبة الروح المدبر للصورة، فيؤخذ في حد الإنسان - مثلا - باطنه وظاهره، وكذلك كل محدود، فالحق محدود بكل حد وصور العالم لا تنضبط ولا يحاط بها، ولا يعلم حدود كل صورة منها إلا على حد ما حصل لكل عالم من صوره، فلذلك يجهل حد الحق، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حد كل صورة، وهذا محال، فحد الحق محال.
ثم قال: فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه.
ويتلخص من كلماته: أن مسمى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكمالية والنعوت الإلهية، لما تقرر عندهم، أنه ما من نعت إلا وله ظل ومظهر في العالم، وثبت أيضا أن الإشتراك بين معنى كل اسم ومظهره ليس بمجرد اللفظ فقط، حتى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحققها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيا فقط، بل يكون معنويا، إلا ان هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة.
فتكون الأسماء الإلهية مع مظاهرها ومجاليها الكونية متحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصور الحسية الموجودة في عالم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدركة بإدراك الحواس الظاهرة، أو كانت من الصور العقلية الموجودة في عالم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبوح والقدوس، ومظاهرها المتنوعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية.
وقد عرفت أن حد الشيء عبارة عن صور عقلية تفصيلية يدل عليها بألفاظ متعددة دالة على ما يدل عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلا صورتان إدراكيتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعددة تفصيلية، فيقال للمفصلة إنها حد، وللمجمل إنه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهية ومظاهرها الكونية التي هي أجزاء العالم ظاهرا وباطنا على كثرتها حدا حقيقيا لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالم حدا لاسم الله، كما ان جميع معاني الأسماء الإلهية حد له، إلا ان سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحد، لأنها غير محصورة، والمراد من لفظ الحق في قوله فالحق محدود بكل حد هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحدية وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حد ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويتهم واندكاك جبل إنيتهم.
ويؤيد هذا ما ذكره في الفص الاسماعيلي: اعلم أن مسمى لفظة الله أحدي بالذات، كل بالأسماء، وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة، يستحيل أن يكون له الكل.
وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئا والآخر منها شيئا، لأنها لا تقبل التبعيض، فأحديته مجموع كله بالقوة.
Unknown page