والثالث: كمن يعطيه لطلب الثناء الجميل.
والرابع: كمن يعطيه لطلب الثواب الجزيل، أو لإزالة حب الدنيا، أو الرقة الجنسية عن قلبه. وهذه الأقسام كلها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاملة ومعاوضة ولا يكون جودا ولا هبة وإعطاء، وأما الحق تعالى، فهو لما كان كاملا في ذاته وصفاته، فيستحيل أن يعطي شيئا ليستفيد به كمالا، فهو الجواد المطلق والراحم الحق.
واعلم: أن هذا إنما يتم على مذهب أهل الحق، القائلين بأنه تعالى تام الفاعلية بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد ولا لفعله غاية سوى ذاته، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض، دون القصد والروية، كما زعمه الأكثرون، تعالى عنه علوا كبيرا.
الثاني: إن كل ما سواه ممكن الوجود بحسب ماهيته، والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إياه ابتداء، إذ إمكان الشيء علة احتياجه إلى المؤثر الواجب، كما برهن عليه في مقامه، وكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله، إذ ليس لغيره صفة الايجاد، بل إنما شأن غيره الإعداد والتخصيص في الاستناد، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله.
الثالث: إن فلانا يعطى الحنطة مثلا ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام، والشهوة الراغبة إلى أكله، والقوى الناهضة لذلك، والآلات المعدة لنقله وطحنه وعجنه وطبخه وغير ذلك، وما يتوقف عليها من الخشب والحديد والنجار والحداد، والأرض التي يقومون عليها، والهواء الذي يتنفسون به، والفلك الذي يحدد جهات أمكنتهم وأزمنتهم، والكواكب التي تنور في الليل والنهار بحركاتها أكنافهم، وتسخن أطرافهم، وتنضج حبوبهم وأثمارهم التي يتغذون بها، والملائكة الذين يدبرون السموات ويحركون الكواكب كالشمس والقمر وغيرهما على سبيل المباشرة، والملائكة العلوية الذين يدبرون هذه الملائكة على سبيل التشويق بالوحي والإعلام، فما دام لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة، فخالق الحنطة تلك والممكن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتى يحصل الانتفاع، هو الراحم.
فصل
[تقديم الرحمن على الرحيم]
قيل في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " والقياس يقتضي في ذكر النعوت الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالم نحرير، وفلان شجاع باسل، إنه لما صار كالعلم - كما مر - يكون أولى بالتقديم. أو لأن الرحمن لما دل على عظائم النعم وجلائلها وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف. وإنما وقعت التسمية بهذه الأسماء دون غيرها، ليدل على أن الحري بالاستعانة به في مجامع المهمات هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النعم ومبدأ الخيرات كلها عاجلها وآجلها، وجليلها وقيقها، ليتوجه العارف بجميع قواه ومشاعره إلى جناب القدس، وينقطع نظره عن ما سواه، ويشغل سره بذكر مولاه، والاستمداد به في مقاصد أولاه وأخراه.
واعلم: أن الأشياء أربعة أقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.
أما الأول: فهو إما في الدنيا فكالتنفس، فإنه لو انقطع منك لحظه واحدة مات القالب، وإما أن يكون في الآخرة، فهو معرفة الله، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب العذاب الدائم.
Unknown page