201

Tafsīr Ṣadr al-Mutaʾallihīn

تفسير صدر المتألهين

Genres

أقول: وها هنا سر لطيف لا يمكنني ضبط عنان القلم عن كشفه، وهو أن الإنسان في بداية الأمر في غاية الجمود والقساوة كالحجارة أو أشد قسوة منها، لعدم المناسبة له الى حضرة نور القدس، وإنما يلين جلده وقلبه لذكر الله على التدريج، بواسطة تلطف سره بالرياضات والتلطفيات، وذوبان لحمه وشحمه بإذابة التكاليف الدينية والعقلية، حتى يبلغ الى مقام يتسخن كبده بحرارة الشوق والمحبة، ثم يشتعل زيت قلبه بنار التوبة والندامة، ثم يتنور مصباح روحه بنور الإيمان والمعرفة.

وأصل الكلام وبناؤه؛ على أن الموجودات متفاوتة في الوجود وكماليته، وللإنسان أن يسلك في سبيل الله، ويتدرج في الدرجات، ويسير من أدنى منازل الوجود الى اعلاها، فيترقى من أول منازل الموجودات الأرضية والمائية الى آخر منازل الموجودات الهوائية والنارية كالجن والشياطين، ومنها يأخذ في سيره الى منازل الموجودات النورية، وهي مراتب الملكوت الأعلى، فلا بد من وروده في سيره الباطني أولا الى نشأة من نشئآت النيران، سواء كان في الدنيا أو في العقبى، كما قال تعالى:

وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا

[مريم :71].

فإن ورد عليها في الدنيا، فيقع الخلاص منها، وإلا فسوف يعذب بها في العقبى، ووروده على النار في الدنيا، عبارة عن احتراق قلبه أولا بنار التوبة والندم، ثم ذوبان جسمه بنار الرياضات والتكاليف الشاقة، ثم اشتعال ذهنه بنار الحركات الفكرية والانتقالات النفسانية، وهكذا حتى يتجاوز من هذه المقامات بقوة البرهان ونور الإيمان، الى عالم الأنوار الملكوتية، ويتخلص عن عذاب النيران، ويحل في منازل الجنان ومجاورة الرحمن، كما قال تعالى:

ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا

[مريم:72].

فإذا تقرر هذا، فلعمري إن الصلاة أشد العبادات تأثيرا في تسخين الباطن، وتليين الجلود والقلوب لذكر الله، وتذويب ذهب الخلاص في كورة الامتحان، لاشتمالها على نار الإيمان والمعرفة ونار الخوف والخشية للقرب، ونار التوبة والندامة، ونار الفكر والرياضة النفسية والبدنية.

وفي الحديث:

" كان يصلي رسول الله وفي صدره ازيز، كأزيز المرجل ".

Unknown page