179

Tafsīr Ṣadr al-Mutaʾallihīn

تفسير صدر المتألهين

Genres

وأما أرباب البصائر، المقتبسين أنوار المعرفة من مشكاة النبوة لا من أفواه الرجال، المستفيضين أسرار الحكمة الحقة من معدن الوحي والرسالة، لا من مقارعة الأسماع بالقيل والقال، فالأمر عندهم بالعكس من ذلك، فإن الأعمال تراد للأحوال، والأحوال للعلوم، فالأفضل العلوم، ثم الأحوال، ثم الأعمال.

فإن لوح النفس كالمرآة، والأعمال تصقيلها وتطهيرها، والأحوال صقالتها وطهارتها، والعلوم صورها المرتسمة فيها.

فنفس الأعمال - لكونها من جنس الحركات والانفعالات - تتبعها المشقة والتعب، فلا خير فيها إذا نظر اليها لذواتها. ونفس الأحوال - لكونها من قبيل الأعدام والقوى - فلا وجود لها، وما لا وجود له فلا فضيلة فيه، وإنما الخير والفضيلة لما له الوجود الأتم والشرف الأنور، وهي الموجودات المقدسة والمعقولات الصورية المجردة عن التغير والزوال، والشر والوبال. كالباري وملائكته العلوية، والأرواح المطهرة الإنسية، والحضرة الإلهية، والحظيرة القدسية.

ففائدة إصلاح العمل إصلاح القلب. وفائدة إصلاح القلب، أن ينكشف له جلال الله في ذاته وصفاته وأفعاله.

فأرفع علوم المكاشفة هي المعارف الإيمانية ومعظمها معرفة الله ثم معرفة صفاته وأسمائه، ثم معرفة أفعاله، فهي الغاية الأخيرة التي يراد لأجلها تهذيب الظواهر بالأعمال، وتهذيب البواطن بالأحوال، فإن السعادة بها تنال، بل هي عين الخير والسعادة واللذة القصوى.

ومقابلها وهو الجهل بها، محض الشر والشقاوة والألم الشديد، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة، ولا قلب من اتصف بالجهل بحقائق الإيمان بأنه محض الشر والألم، وانما يقع الشعور بتلك السعادة وهذه الشقاوة في الدار الآخرة، التي فيها أعلنت السرائر، وأبطنت الظواهر، ونشرت الصحائف، وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور.

فالعلم بالإلهيات هو الأصل في الإيمان بالله ورسوله، وهو المعرفة الحرة التي لا قيد عليها ولا تعلق له بغيرها، وكل ما عداه عبيد وخدم بالإضافة، فإنما يراد لأجلها، وهي أيضا معطى أصولها، ومثبت موضوعات مسائلها ومحقق مبادئ براهينها وغايات مطالبها.

ولما كانت سائر العلوم لأجلها، كان تفاوتها في الفضيلة بحسب تفاوت نفعها بالإضافة الى معرفة الله، فإن بعض المعارف يفضي الى بعض إما بواسطة أو بوسائط، حتى يتوسل بها الى معرفة الله، كما ان الأعمال والأخلاق يفضي بعضها إلى بعض حتى ينجز الى تصفية الباطن بالكلية.

فمن العلوم كلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله أقل، كان أفضل، كما ان من الأعمال كلما كانت الوسائط بينه وبين تصفية القلب أقل، كان أزكى.

وأما الأحوال - أعني صفاء القلب وطهارته من شوائب الدنيا وشواغل الخلق - فيعني بها استحقاقه لحصول نور المعرفة، واستعداده لانكشاف حقيقة الحق وصورة الحضرة الإلهية، حتى إذا تمت طهارته، وصقلت صفحة وجهه، واجهته أنوار الكبرياء، وحضرت عنده وانكشفت لديه حقائق الأشياء.

Unknown page