172

وثالثها: كيف وصف القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المحكم من المتشابه، والمبين من المجمل، فيكون الهدى في الحقيقة هو العقل لا القرآن، وعن هذا نقل عن علي (عليه السلام)، أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولا إلى الخوارج: لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه حمال ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال (عليه السلام) ذلك، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوا، بعض آياته صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر، ولا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسف الشديد، فكيف يكون هدى؟

والجواب: إن ذلك المجمل والمتشابه، لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين، وهو إما دلالة العقل المنور بنور القرآن، وإما دلالة المبين والمحكم من الآيات، صار كله هدى.

وأما قوله: " لا يمكن التوفيق بين آيات الجبر وآيات القدر إلا بالتعسف الشديد " ، فليس كذلك عند من هو من أهل القرآن، وهم المتقون الراسخون في العلم والعرفان.

واربعها: كلما يتوقف صحة كون القرآن حجة عليه، لم يكن القرآن هدى فيه، فاستحال كون القرآن هدى في معرفة الله وصفاته، ومعرفة النبوة والمعاد، ولا شك أن هذه أصول المطالب، وهي أشرف العلوم، فإذا لم يكن القرآن فيه هدى، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟

والجواب: إن كمال المعرفة بالله ورسله وملكوته والنشأة الآخرة، لا يحصل إلا بالقرآن، وكذا العلم بالشرائع الإلهية، وسائر الحقائق النبوية، لا يستفاد إلا به، والمتوقف عليه صحة كون القرآن حجة هو أصل الاعتقاد بالله واليوم الآخر على وجه يشترك فيه أكثر الناس، ويذعن به أوائل العقول، من غير حاجة الى ممارسة القرآن ومطالعة الآيات.

والإيمان بالله واليوم الآخر مرتبة عظيمة ومنزلة شريفة، لا يوجد إلا في عرف القرآن وعلم آياته ومعانيه على وجه تتنور به قلوب أهل الحق، وهو غير الاعتقاد الذي قد يحصل بمجرد التقليد أو الرواية من غير بصيرة واهتداء، ويشترك أوائل الفطر ومبادئ العقول، وأما الإيمان الحقيقي، فالمؤمن به يحتاج الى فطرة ثانية، ونور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده.

وخامسها: إن الهدى، هو الذي بلغ في البيان والوضوح الى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسرين لا يذكرون آية إلا وذكروا فيها أقوالا كثيرة متعارضة. وما يكون كذلك لا يكون مبينا في نفسه، فضلا عن أن يكون مبينا لغيره، فكيف يكون هدى؟

والجواب: من تكلم في التفسير، وشأنه نقل الأقاويل المتعارضة من غير بصيرة يقتدر بها على ترجيح واحد منها على الباقي، أو الاطلاع على فهم جديد أعطاه الله من لدنه، فهذا السؤال متوجه عليه، لا على أهل القرآن من أرباب التأويلات والعلوم الربوبيات والنبوات.

تتمة في الإعراب:

حكم صاحب الكشاف أولا أن محل " هدى للمتقين " الرفع، لأنه خبر مبتدإ محذوف. أو خبر مع " لا ريب فيه " (لذلك). أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبرا عنه، أو أنه منصوب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، أو الظرف كما مر.

Unknown page