{ ومن يرد } منكم { ثواب الآخرة } من الحقائق والمعارف والمواهب العلية التي هي المقصد الأقصى، والمطلب الأعلى من وجوده { نؤته منها } مقدار ما يقتضي استعداده الفطري { و } اعلموا أيها المؤمنون { سنجزي } بفضلنا وجودنا بلا وساطة ووسائل { الشكرين } [آل عمران: 145] المنسلخين عن الإرادة، بل عن جميع الأمور المرادة، الراضين بما قسم لهم، وقدر عليهم في سابق علمنا بروضة الرضا وجنة التسليم.
{ وكأين من نبي } يجاهد في سبيل الله؛ لترويج توحيده { قاتل معه ربيون } ربانيون مخلصون { كثير } منهم قتلوا وأصيبوا { فما وهنوا } وما جبنوا { لمآ أصابهم } من القرح { في سبيل الله } لإعلاء دينه { وما ضعفوا } من محاربة أعداء الله { وما استكانوا } وتضرعوا إليهم؛ استبقاء واستخلافا، بل كانوا كرارين جرارين، بحيث لا يرى عليهم أمارات الجبن والخوف أصلا، صابرين على ما أصابهم من القرح والجرح، وقتل الأقارب والعشائر { والله } الهادي لعباده إلى توحيده { يحب الصابرين } [آل عمران: 146] منهم في البلوى، والطائرين شوقا إلى المولى، الراضين بما يحب له ويرضى.
[3.147-150]
{ و } من غاية تصبرهم وتمكنمهم على الجهاد في سبيل الله { ما كان قولهم } عند عروض المكروهات والمصيبات فيه { إلا أن قالوا } مستغفرين، مسترجعين إلى الله، خائفين من ضعف الأخلاص في امتثال أوامره: { ربنا } يا من ربانا في مضيق الإمكان بأنواع اللطف والإحسان { اغفر لنا } بفضلك { ذنوبنا } خواطرنا التي خطرت في نفوسنا من خوف أعدائك بعدما أمرتنا إلى مقاتلتهم.
{ و } اغفر لنا أيضا يا ربنا: { إسرافنا في أمرنا } أي: ميلنا وتجاوزنا إلى طرفي الإفراد والتفريط عن حدودك التي وضعت لنا في الغزو الجهاد { وثبت أقدامنا } على جادتك التي وضعت له في علمك { و } بعد ثبوتنا بتثبيتك { انصرنا } بحولك وقوتك { على القوم الكافرين } [آل عمران: 147] الساترين نور الوجود بأباطيل هوياتهم وماهياتهم، المائلين عن طريق التوحيد بمتابعة عقولهم المموهة بشياطين الأوهام الباطلة.
وبعدما أخلصوا لله، واستغفروا لذنوبهم، والتجأوا لحوله وقوته { فآتاهم الله } مجازيا لهم؛ تفضلا وامتنانا { ثواب الدنيا } من النصر والغنيمة، والفوز بالفتح، والظفر على الأعداء، والسيادة والرئاسة على الأولياء على أحيائهم { وحسن ثواب الآخرة } من المشاهدة والرضا والمكاشفة، واللقاء على شهدائهم الذين قتلوا في سبي الله، مشتشوقين إلى الفناء فيه؛ ليتحققوا ببقائه
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء
[آل عمران: 169] عن الآية، { والله } الهادي لعباده إلى فضله في معاده { يحب المحسنين } [آل عمران: 148] منهم، ويرضى عنهم، خصوصا الذين أحسنوا في سبيل الله ببذل المهج وأعطاء الروح.
ربنا اجعلنا من خدامهم وتراب أقدامهم.
ثم لما أراد سبحانه تثبيت المؤمنين على قواعد الإسلام، ورسوخهم على مقتضى شعار الدين والإيمان، حذرهم عن إطاعة الكفار ومخالطتهم، والاستعانة منهم، والاستكانة إليهم، فقال مناديا لهم: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا } وتنقادوا وتستنصورا من { الذين كفروا } بتوحيد الله عنادا، وأعرضوا عن كتبه ورسله؛ استكبارا { يردوكم } إلبتة بعد إهدائكم إلى الإيمان { على أعقابكم } التي أنتم فيها من الكفر والطغيان قبل انكشافكم بالإيمان، وإن انقلبتم { فتنقلبوا خاسرين } [آل عمران: 149] خسرانا عظيما، فعليكم أن تتركوا موالاتهم وموافاتهم.
Unknown page