وهم في تلك الحالة حيارى مضطربين، لا تنفعهم أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا.
وكيف يشفعون له معبوداتهم؛ إذ هم { لا يملكون الشفاعة } لأنفهسم ليخففوا العذاب عنهم متى أرادوا، بل لا شفاعة لهم { إلا من اتخذ } وحصل له { عند الرحمن } أي: من عنده { عهدا } [مريم: 87] إذنا بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاع ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم، وإن أذن لهم الرحمن المستعان.
{ و } كيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان، والخلاص من سعير الخذلان والخسران، مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها؛ حيث { قالوا } مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدره ورتبته: { اتخذ الرحمن } المنزه عن وصمة الكثر وشين النقصان، المقدش عن سمة الحدوث والإمكان { ولدا } [مريم: 88] هو أقوى أمارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان.
[19.89-98]
والله أيها المفترون على الله { لقد جئتم } بإثبات الولد له سبحانه { شيئا إدا } [مريم: 89] منكرا عظيما، ومفترى شنيعا فظيعا، إلى حيث { تكاد السموت يتفطرن } ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التئامها { منه } أي: من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه، هولا ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه ونزول عذابه { وتنشق الأرض و } كذا { تخر } و تسقط { الجبال } خرور خشية وهول { هدا } [مريم: 90] أي: سقوطا وأصلا إلى التفتت والتشتت والاندكاك بالمرة، بحيث اضمحلت رسومها مطلقا.
كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية، ومقتضيات أسمائه القهرية، المنبعثة من الغيرة الإلهية، الناشئة منه سبحانه بواسطة { أن دعوا } وأثبتوا { للرحمن } المقدس المبرئ في ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان { ولدا } [مريم: 91].
{ وما ينبغي } ويليق { للرحمن } المتجلي في كل آن وشأن، ولا يشغله شأن عن شأن { أن يتخذ } زوجة ويتسبب بها ليظهر { ولدا } [مريم: 92] يستخلفه ويستظهر به ويستعين منه، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
بل { إن كل من في السموت } من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله، المستوحشين من سطوة جلاله { والأرض } أي: من في عالم الطبيعة المتوجهة نحو مبدعها طوعا { إلا آتي الرحمن } المهد الممد لهم أضلال أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى، والمفيض عليهم من رشحات بحر وجوده، بمقتضى فضله وجوده { عبدا } [مريم: 93] متذللا مقهورا تحت تصرفه، مصروفا حسب قدرته وإرادته، محاطا تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه.
إلى حيث { لقد أحصاهم } وفصلهم، لا يشذ شيء من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، وجميع حالاتهم حتى اللمحة اللحظة الطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره { وعدهم عدا } [مريم: 94] أي: فردا فردا، وشخصا شخصا، مع جميع العوارض من المتعلقة بكل فرد وشخص، ما داموا في هذه النشأة، { وكلهم آتيه } أيضا { يوم القيامة فردا } [مريم: 95] منفردا مفروزا عن الأنصار والأعوان وجمي الأصحاب والخلان.
ثم قال سبحانه: { إن } المنتخبين المنتجبين { الذين آمنوا } بالله وتوحيده، وأطاعوا لرسله والمؤيدين من عنده وامتثلوا بجميع ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبينة في الكتب الإلهية المنزلة عليهم { و } مع ذلك { عملوا الصالحات } من النوافل المقربة إلى الله طلبا لرضاه وابتغاء لوجهه { سيجعل } ويحدث { لهم الرحمن } المتكفل لجزائهم وإثابتهم بمقتضى سعة رحمته وجوده ووفور لطفه { ودا } [مريم: 96] ومحبة في قلوب جميع المؤمنين حتى يحبوهم، ويتحننوا نحوهم، بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الإنعام والإحسان وأنواع العطية والإكرام، مع محبة عموهم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات لوازم البشرية.
Unknown page