ثم لماسمع الخضر من موسى ما سمع: { قال هذا } أي: سؤالك وتعريضك هذا { فراق بيني وبينك } أي: يوجب مفارقتي عنك، لكن لا أفارقك في الحال بل { سأنبئك } وأخبرك { بتأويل ما } أي: بتأويل الأمور التي أنكرت عليها، واعترضت مفتتحا إياها مستعجلا بحيث { ما لم تستطع عليه صبرا } [الكهف: 78] حتى أحدثك وأبينك سرائرها مع أني أوصيتك أولا ببيانها.
ثم فصلها فقال: { أما السفينة } التي خرقتها بإلهام الله إياي، وإلقائه على قلبي { فكانت } هي { لمساكين } ضعفاء لا مكسب لهم سواها { يعملون في البحر } بها ويعيشون من نولها { فأردت أن أعيبها } أي: أجعلها ذات عيب { وكان ورآءهم ملك } ظالم سيئ عليهم، وهو { يأخذ كل سفينة } صحيحة غير معيبة { غصبا } [الكهف: 79] ظلما وزورا بلا فدية، فجعلتها ذات عيب حتى تبقى لهم، وذلك بإذن من الله عناية منه سبحاه لضعفاءعباده ورعاية لحالهم ومصلحتهم.
{ وأما الغلام } الذي قتلته على الفور، فهو غلام قد جبله الله على الكفر والعصيان وأنواع الشرك والطغيان { فكان أبواه مؤمنين } موحدين مسلمين { فخشينآ } عليهما من سوء فعاله وقبح حاله { أن يرهقهما } ويغشيهما ويغطيهما { طغيانا وكفرا } [الكهف: 80] من غاية حبهما له وتحننهما إياه { فأردنآ } وأحببنا بقتله وهلاكه { أن يبدلهما } أي: يرقهما ويهب لهما { ربهما } الذي رباهما بنعمة التوحيد والإيمان وكرامة العصمة والعفاف ولدا { خيرا منه زكاة } أي: طهارة مطهرة عن خبائث الكفر والآثام، متصفة بجبلة الإيمان والإسلام { وأقرب رحما } [الكهف: 81] مرحمة وعطفا وبرا على الوالدين ولطفا .
قيل: ولدت له جارية بدل الغلام، فتزوجها نبي من الأنبياء، فولدت نبيا هدى الله به أمة من الأمم.
{ وأما الجدار } الذي أردت إقامته، وقصدت تعميره بإلهام الله ووحيه { فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ولم يبلغا الحلم { وكان تحته كنز لهما } مدفون مخزون من ذهب وفضة { وكان أبوهما } رجلا { صالحا } موحدا مسلما، متوجها نحو الحق دائما { فأراد ربك } يا مسى من كمال لطفه وعطفه لليتيمين ورعاية للأب الصالح { أن يبلغآ أشدهما } ويدخلا رشدهما ويخرجا عن اليتم؛ إذ لا تم بعد البلوغ، ويصيرا ذوي رأي رزين وفكر بين { و } بعد ذلك { يستخرجا كنزهما } وإنما أمرني الله سبحانه بإقامة الجدار وإحكام المخزن { رحمة } وعطفا { من ربك } يا موسى شاملة إياهما تتميما لتربيتههما وتقويتهما.
{ و } بالجملة: { ما فعلته } وأنكرت عليه واعترضت وتعرضت عليه ليس صادرا { عن أمري } ورأي نائشا عن تدبر عقلي وفكري، بل مما ألهمني الله به وهاني عليه وأمرني بفعله، فأنا مأمور والمأمور معذور { ذلك } المذكور على التفصيل { تأويل ما لم تسطع } ولم تطق { عليه صبرا } [الكهف: 82] حتى ظهر لك سره.
ومما جرى بينهما - صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما - يتفطن العارف اللبيب والطالب الأريب الأديب أن شرط الاستفادة والاسترشاد، ومناط الاستكمال وطلب الرشاد، هو أن يميت المريد المسترشد نفسه عند المرشد الكامل المكمل بالمت الإرادي؛ بحيث لا يتصدى إلى معارضه ومقابلته، وإن جزم أن قعل المرشد خارج عن مقتضى العقل الشرع على زعمه، بل حمل فعله على المحمل الأصوب، وسكت عن الجدال والمقابلة؛ إذ بعدما فوض أمره كله إلى مرشده واتخذه وكيلا وأخذه ضمينا وكفيلا، فقد فني فيه وبقي ببقائه، فلم يبق له التصرف أصلا بمقتضيات قواه وجوارحه ومداركه ومشاعره.
هب لنا ربنا من لدنك رحمة تنجينا عن تسويلات نفوسنا.
ثم قال سبحانه على وجه التنبيه لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم: { ويسألونك } يا أكمل الرسل، أي: اليهود المردودون والنصارى المنجوسون المطرودون سؤال اقتراح وامتحان مثل سؤال أصحاب الكهف والروح { عن ذي القرنين } وأطواره وكيفية سيره وطوافه حول العالم { قل سأتلوا } وأقرأ وأذكر { عليكم منه } أي: من ذي القرنين وقصته { ذكرا } [الكهف: 83] قد أخبرني به سبحانه بالوحي في كتابه المعجز، وهو الإسكندر الأكبر الرومي بان الفيلقوس الرومي، سمي بذي القرنين؛ لأنه طاف قرني الدنيا؛ أي: المشرق والمغرب، اختلف في ولايته ونبوته.
[18.84-97]
Unknown page