363

{ و } اذكر يا أكمل الرسل { يوم يقول } الله سبحانه على سبيل التعبير والتقريع للكفار والمشركين: { نادوا } أيها المنهمكون في الغي والضلال { شركآئي الذين زعمتم } أنهم شفعاؤكم اليوم، وعبدتم لهم مثل عبادتي بل أحسن منها حتى ينقذوكم من عذابي، ويشفعوا لكم عندي { فدعوهم } صارخين مستغيثين { فلم يستجيبوا لهم } ولم يجيبوا استغاثتهم؛ لأنهم حينئذ مشغولون بحالهم، مأخوذون بوبالهم ونكالهم، لذلك لا يلتفتون إليهم { و } مع ذلك { جعلنا بينهم } أي: بين العابدين والمعبودين { موبقا } [الكهف: 52] مهلكا عظيما وواديا غائرا عميقا من أودية جهنم مملوءة بالنار؛ بحيث لا يمكن تواصلهم أصلا.

{ ورأى المجرمون النار } بعدما عرضوا أو حوسبوا، وسيقوا نحو جهنم؛ ليعذبوا فيها كل على مقتضى ما كسب من المعاصي والآثام الموجبة للأخذ والانتقام { فظنوا } بل تيقنوا { أنهم مواقعوها } داخلوها وملاصقوهها ألبتة { و } وكيف لا يجزمون بالدخول واللصوف أنهم { لم يجدوا عنها مصرفا } [الكهف: 53] أي: منصرفا ومعدلا سواها، ينصرفون إليه مع أن الموكلين من الملائكة يسوقونهم، ويدخلونهم فيها زجرا وقهرا.

[18.54-61]

{ و } كيف يجدون مصرفا سواها، ومن أين يتأتى لهم الانصراف اليوم؛ إذ هم فوتوا على أنفسهم المصرف، وسبب الانصراف في النشأة الأولى مع أنا { لقد صرفنا } وكررنا { في هذا القرآن } المرشد إلى الهداية، الصارف عن الضلالة والغواية { للناس } المنهمكين في الغفلة والنسيان { من كل مثل } أي: من كل شيء مثلا موضحا ينبههم إلى الهدى، ويجنبهم عن الغفلة والهوى، فلم ينتبهوا ولم يتفطنوا بل قابلوا الباطل بالحق وجادلوا { وكان الإنسان } المجبول على النسيان والكفران { أكثر شيء جدلا } [الكهف: 54] أي: جداله ومكابرته أكثر من جدال سائر المخلوقات، وأن رشده وإيمانه أكثر أيض منها أيضا.

ثم قال سبحانه: { وما منع الناس } عن الإيمان وصرفهم { أن يؤمنوا } أي: يوقنوا ويصدقوا { إذ جآءهم الهدى } أي: النبي الهادي المؤيد بالكتاب المعجز المرشد { و } صرفهم أيضا أن { يستغفروا } ويتوبوا عن ظهر القلب عقيب كل معصية، نادمين عنها بلا إصرار وإدمان؛ ليسقط عنهم الأخذ والانتقام { ربهم إلا أن تأتيهم } ويحيط بهم { سنة الأولين } من الإهلاك والاستئصال بغتة { أو يأتيهم العذاب قبلا } [اكهف: 55] أي: أنواعا وأصنافا منه، مترادفة متوالية كالكسف والخسف والمسخ وغير ذلك، فيهلكهم على سبيل التدريج.

{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } بأنواع الفتوحات والفيوضات الروحانية، والكشوفات والشهودات اللدنية النورانية { ومنذرين } عن أنواع العذاب والعقاب والنكبات، والبليات المورثة لأنواع الخذلان الخسران والطرد والحرمان والخلود في النيران إصلاحا لأحوال الأنام، وإرشادا لهم إلى دار السلام، وحثا لهم إلى سلوك طريق التوحيد المنجي عن ظلمات الشكوك والأوهام.

{ و } مع ذلك { يجدل الذين كفروا } بالله ورسله، ويخاصمون معهم متشبثين { بالبطل } الزائغ الزائل { ليدحضوا } أن ينزعوا { به الحق } ويزلقوا الثابت المستقر المطابق للواقع عن مقره { و } لذلك { اتخذوا ءايتي } الدالة على عظمة ذاتي، ووفور حكمتي، وكمال قدرتي وقوتي { ومآ أنذروا } أي: ما اشتملت عليه من الإنذارات والتخويفات وأنواع الوعيدات { هزوا } [الكهف: 56] أي: موضع استهزاء وسخرية، ومحل هزل وضحكة؛ لذلك نسبوها إلى ما لا يليق بشأنه من السحر الشعر والأساطير الكاذبة، وغيرها من أنواع الهذيانات والأباطيل الزائغة افتراء ومراء.

{ ومن أظلم } على الله وأسوأ أربابا لنسبته إليه سبحانه { ممن ذكر بآيت ربه } ليتعظ بها ويصلح بسببها { فأعرض عنها } وانصرف من سماعها، فكيف عن قبولها امتثالها استنكارا واستكبارا { ونسي ما قدمت } أي : كسبت واقترفت { يداه } من الجرائم والآثام وأنواع الكفر والشرك والطغيان، ولو اتعظوا به وعملوا بمقتضاها لذهبت سيئاتهم وتضاعفت حسناتهمه، وكيف يتذكرون بها ولا يمكنهم التذكر { إنا } بمقتضى قهرنا وسخطنا عليهم { جعلنا } أي: طبعنا وختمنا { على قلوبهم } التي هي وعاء التذكر والقبول { أكنة } حجبا غليظة كثيفة مانعة { أن يفقهوه } أي: القرآن ويفهموا معانية ومقاصده، فكيف بغوامض رموزه وإشاراته { و } ختمنا أيضا { في ءاذانهم وقرا } صمما بمنعهم عن الاستماع والإصغاء إليه، فيكف عن فهمه والعمل به.

{ و } من غلظ غشاوتهم، وشدة قساوتهم وصممهم { إن تدعهم } يا أكمل الرسل { إلى الهدى } وترشدهم إلى الفلاح والفوز بالنجاح { فلن يهتدوا } ويفوزوا { إذا } أي: حين ختم قولبهم ووقر صماخهم { أبدا } [الكهف: 57] في أي حال من الأحوال؛ إذ لا يعارض فعلنا ولا يبدل قولنا إلا بأمرنا وتوفيقنا.

وتكذيبهم الرسل والكتب، وإصرارهم على الكفر والشرك، وإن كان يستدعي نزول العذاب عليهم فجأة لاستخفافهم بنزوهل إلا أنه يمهلهم { وربك الغفور } المبالغ في ستر ذنوب عباده وعيوبهم؛ لأنه { ذو الرحمة } الوسعة والحكمة الكاملة لعلهم يتنبهوا بقبح صنيعهم، ويتأملوا في وخامة عواقبهم، فانصرفوا عما هم عليه نادمين؛ إذ { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب } على الفور، لكن أمهلهم بمقتضى رحمته وحكمته زمانا لا دواما رجاء أن يتوبوا، ويرجعوا حوه تائبين آيبين { بل لهم } أي: بل لهلاكهم { موعد } لا نفع فيه التلافي والتوبة، وهو يوم الحشر والجزء، وقيل: يوم بدر { لن يجدوا من دونه موئلا } [الكهف: 58] منجي ومخلصا بل يعذبون ويهلكون فيه حتما، بحيث لا يسع لهم التقدم والتأخر أصلا.

Unknown page