وأعجب من ذلك ابتلاع النعامة الجمرة والجذوة والحديدة المحماة المحمرة في النار، ولا تضرها اصلا { و } من قساوة قلوب أولئك الغواة، وغلظ حجبهم { نخوفهم } بأنواع المخاوف الدنيوية والأخروية { فما يزيدهم } تلك التخويفات الهائلة { إلا طغيانا كبيرا } [الإسراء: 60] متجاوزا عن الحد غاية التجاوز لشدة عمههم وعتوهم.
{ و } ليس طغيانهم وإصرارهم عليه إلا بتسويلات الشياطين وتغريراتهمه على مقتضى العداوة القديمة، والخصومة المستمرة بين الشيطان وبني آدم. اذكر وقت { إذ قلنا للملائكة } بأجمعهم بعدما جاوءا بما جاءوا من الحجج والدلائل الدالة على عدم لياقة آدمة ب الخلافة والنيابة إلى أن أفحموا وألزموا: { اسجدوا لأدم } وتذللوا عنده، ولا تجادلوا في حقه إنا قد إخترناه لخلافتنا { فسجدوا } سجود تواضع وتكريم امتثالا للأمر الوجوبي، بعدما ما تمادوا في إيراد الحجج استحياء منه سبحانه، ورهبة من سطوة قهره بالإعراض عن أمره وما خالف أمر الله منهم { إلا إبليس } فإنه أصر على الإنكار، ولم يرغب إلى امتثال المأمور بل زاد على الجدال والنزاع؛ حيث { قال } مستعبدا مستنكرا { أأسجد } وأتذلل من نجابة أصلي وشرف عنصري { لمن خلقت طينا } [الإسراء: 61] أي: لمن أنشأته وصورته من طين متى مذموم لا شرف له ولا نجابة، وما هو إلا تفضيل المفضول وتكريم المرذول.
ثم لما طرده الحق من ساحة عز الحضور، وأخرجه من بين الملائكة، ولعنه لعنة مؤبدة إلى أن آيس عن القبول مطلقا { قال } إبليس معترضا على الله مسيئا الأدب معه سبحانه، مستفهما على سبيل الاستبعدا والاستنكار: { أرأيتك } أي: أخبرني { هذا } القالب المستحقر المسترذل { الذي كرمت علي } وأمرتني بسجوده وطردتني لأجله طردا مخلدا، بناء على أنه يعبدك ويعرفك، ويوحدك حق توحيدك، ويقدسك حق تقديسك وتنزيهك، ويتفطن على حق قدرك وقدر حقيتك، والله وبحق عظمتك وجلالك { لئن أخرتن } وأبقيتني فيما بينهم { إلى يوم القيامة } المعدة لتنفيذ الأعمال وعرضها على جنابك { لأحتنكن ذريته } أي: أضلنهم وأغوينهم بالإغواء والإغواء إلى حيث أمحون أسماءهم عن دفتر المؤمنين، فكيف عن العارفين المكاشفين المشاهدين، لأن تركيبهم وبنيتهم هذا مقتضى أنواع الفسادات وأصناف العصيان والضلالاات، ولي فيهم مداخل كثيرة أوسوسهم وأغريهم إلى حيث أضلهم عن منهج الرشاد ومسلك السداد { إلا قليلا } [الإسراء: 62] منهم فإنهم ثابتون على ما جبلوا لأجله لا أقدر على إغوائهم؛ لكونهم مؤيدين من عندك، موفقين بتوفيقك.
ثم لما سمع سبحانه منه ما سمع { قال } سبحانه ساخطا عليه مغاضبا طاردا له أشد طرد وتبعيد: { اذهب } يا ملعون فقد أمهلناك فيما بينهم إلى قيام الساعة، فذلك أن تفعل بهم ما نفعل { فمن تبعك منهم } بعدما جبلناهم على فطرة التوحيد والمعرفة، ومع ذلك أرسلنا عليهم الرسل المنبهين المرشدين لهم طريق الرشاد، وأنزلنا عليهم الكتب المبينة لهم أحوال المبدأ والمعاد، ومع ذلك يتركون متابعة الكتب والرسل، ويتبعون لك ويقتفون أثرك، فيهم حينئذ خارجون عن زمرة عبادنا الصالحين، لا قون بك، مستحقون بما استحققت أنت وأعوانك من الجزاء { فإن جهنم } الطرد والحرمان وأنواع المذلة والخذلان حينئذ { جزآؤكم } تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا { جزاء موفورا } [الإسراء: 63] أي: مستوفيا وافرا وافيا، لا مزيد عليها مؤيدا مخلدا.
{ و } بعدما سمعت جزاءك وجزاء من تبعك منهم { استفزز } أيها المطرود الملعون؛ ي: حرك، وزلزل عن موضع ثبوتهم وقرارهم على جادة التوحيد { من استطعت منهم } وتمكنت على إضلالهم عن طريق الحق { بصوتك } أي: بمجرد أن تصوت عليهم، فينحرفوا من غاية ضعفهم في الإيمان { و } إن لم تقدر، ولم تظفر عليهم بمجرد صوت لرسوخهم وتمكنهم في الجملة { أجلب } أي: سح وصوت { عليهم بخيلك } أي: بركبان أعوانك وجنودك { ورجلك } أي: بمشاتهم ورجالهم، وبالجملة: تمم، وأوفر جميع حيلك ومكرك مهما أمكنك حتى تستفزهم وتضعفهم من مقر الإيمان والعرفان.
{ و } إن شئت اتحادهم وإخاءهم { شاركهم في } جميع { الأموال } أي: علمهم السرقة الغضب وقطع الطريق والربا والحيل المشهورة المعروفة في هذا الزمن، بالحيل الشرعية التي وضعها المتفقهة المتفسقة، خذلهم الله من تلقاء نفوسهم الخبيثة الدنية { و } شاركهم أيضا في { الأولاد } أي: علمهم طريق الإباحةة والاستباحة وتحليل المحرمات المؤدية، إلى تخليط الأنساب وامتزاج المياه كما ابتدعها أهل التلبيس والتدليس من المتشيخة الذين هم من جنودك، أهلكهم الله وقهر عليهم، { و } إن شئت { عدهم } بالمواعيد الكاذبة التي مالت إليها نفوسهم واقضتت شهواتهم من ترك التكاليف والأعمال الشاقة من الفرائض والسنن والآداب والنوافل المقربة نحو الحق، والإنكار على النشأة الآخرة، وما يترتب عليها من الأمور المسئولة عنها، المؤاخذة عليه والجنة والنار { و } معلوم أن { ما يعدهم الشيطان } المغوي المضل { إلا غرورا } [الإسراء: 64] أي: تزيينا وتحسينا للباطل بصورة الحق وادعاء الحقية والحقيقة لهم؛ ليغريهم بها، ويضلهم عن طريق الحق.
وبالجملة: افعل بهم أيها الحريص على إضلالهم ما شئت من المكر والحيل والخداع، وهم إن كانوا من زمرة أرباب الاطمئنان الإيقان، المقررين في مقر التوحيد والعرفان، الموفقين عليه من عندنا، لا يتبعونك ولا يقبلون منك وساوسك وهذياناتك، وليس لك عليهم سلطان أصلا.
وإن كانوا من المطبوعين المختومين من عندنا، المجبولين على الضلال والغواية، فيتبعوك ويقتفوا أثرك، فلحقهم ما لحق بك، وهم من جنودك وأتباعك، وبالجملة:
من لم يجعل الله له نورا فما له من نور
[النور: 40].
Unknown page