{ تالله } يا أكمل الرسل { لقد أرسلنآ } رسلا { إلى أمم } مضوا { من قبلك } حين فشا الجدال والمراد بينهم، فانحرفوا عن جادة الاعتدال، وأيدنا الرسل بالكتب المبينة لطريق العدالة والاستقامة، فبينوا لهم على أبلغ وجه { فزين } وحسن { لهم الشيطان } المغوي المضل { أعمالهم } التي كانوا عليها، فأصروا على أعمالهم، فلم يقبلوا قول الأنبياء؛ لذلك نزل عليهم من العذاب ما نزل في الدنيا، وسينزل في الآخرة بأضعافه وآلافه { فهو } أي: الشيطان { وليهم } أي: متولي أمور هؤلاء عنهم { اليوم } لذلك لم يقبلوا قولك، ولم يسمعوا بيانك، بل أصروا على ما عليه أسلافهم من الغواية والضلالة { ولهم } أيضا مثل أسلافهم، بل أشد منهم { عذاب } في النشأة الأولى والأخرى { أليم } [النحل: 63] مؤلم أشد إيلام؛ لأن بيانك وتبليغك أكمل من بيان سائر الأنبياء.
{ ومآ أنزلنا } من مقام جودنا وفضلنا { عليك } يا أكمل الرسل { الكتاب } الجامع لما في الكتب السالفة مع زيادات خلت عنهم تلك الكتب { إلا لتبين } وتوضح { لهم } أي: للناس الأمر { الذي اختلفوا فيه } أي: التوحيد الذاتي وأحوال النشأة الأخرى، والمكاشفات والمشاهدات الواقعة فيها { و } أنزلناه أيضا { هدى } أي: هاديا، يهديهم إلى التوحيد ببيان براهنيه وحججه الموصلة إليه بالنسبة إلى أرباب المعاملات والمجاهدات، من الأبرار السائرين إلى الله بارتكاب الرياضات القالعة لدرن الإمكان، ورين التعلقات.
{ ورحمة } أي: كشفا وشهودا بالنسبة إلى المجذوبين المنجذبين نحو الحق، المنخلعين عن جلباب ناسوتهم بغتة، بلا صنع صدر عنهم، وأمر ظهر منهم، بل جذبهم الحق عن بشريتهم، وبدلهم تبديلا، كل ذلك { لقوم يؤمنون } [النحل: 64] ويوقنون بتوحيد الله وصفاته الذاتية، ويتأملون في آثار مصنوعاته تأملا صادقا، ويعتبرون منها اعتبارا حقا إلى أن ينكشفوا ويفوزوا بما فازوا، وينالوا بما نالوا، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى.
[16.65-71]
{ والله } الهادي لعباده إلى زلال توحيده { أنزل من السمآء } أي: الطبيعة الهيولانية { مآء } أي: معارف وحقائق وعلوما لدنية { فأحيا به الأرض } أي: الطبيعة الهيلاونية { بعد موتهآ } أي: بعدما كانت عدما صرفا، فاتصفت بالعلوم الإدراكات الجزئية، وترقت منها متدرجا إلى أن وصلت إلى مرتبة التوحيد المسقط للإضافات مطلقا { إن في ذلك } التبيين والتذكير { لآية } دلائل وشواهد دالة على توحيد الحق { لقوم يسمعون } [النحل: 65] سمع قبول وتأمل وتدبر.
{ وإن لكم } أيضا أيها المتأملون المتدبرون { في الأنعام لعبرة } لو تعتبرون بها، وتتفكرون فيها حق التفكر والتدبر لانكشفتم بعجائب صنعنا، وكمال قدرتنا، ومتانة حكمتنا، وحيطة علمنا وإرادتنا؛ إذ { نسقيكم } ونشربكم { مما في بطونه } أي: مما في بطون بعض الأنعام مستخرجا { من بين فرث } أي: أخلاط وفضلات مستقرة في كرشها { ودم } نجس سائل، سار في العروق والشرايين { لبنا } طاهرا { خالصا } صافيا عن كدورات كلا الطرفين، بحيث لا يشوبه شيء منهما، لا من لون الدم، ولا من ريح الفرث { سآئغا } سهل المرور والانحدار، هنيئا مرئيا { للشاربين } [النحل: 66] بلا تسعر لهم في شربه ولا كلفة.
{ ومن } نسقيكم أيضا أيها المعتبرون { ثمرات النخيل والأعناب } بحيث { تتخذون منه } أي: من عصير كل منهما { سكرا } خمرا، يترتب على شرب السكر المسكر، وهو وإن كان حراما شرعا، إلا أنه يدل على عجائب صنع الله، وبدائع حكمته، وغرائب إبداعه واختراعه { و } تتخذون من كل منها { رزقا حسنا } كالتمر والزبيب، والدبس والخل، وأنواع الأدم { إن في ذلك } الاتخاذ { لآية } دالة على كما قدرة الله وحكمته { لقوم يعقلون } [المحل: 67] أي: يستعملون عقولهم بالنظر والتفكر في آلاء الله ونعمائه؛ كي يتفطنوا إلى وحدة ذاته.
{ و } من عجائب المبدعات، وغرائب المخترعات التي يجب العبرة الاعتبار عنها: { أوحى } وألهم { ربك } يا أكمل الرسل { إلى النحل } الضعيف المنحول المستحقر إظهارا لكمال قدرته وحكمته { أن اتخذي } أي: بأن اتخذي - أنثها باعتبار المعنى، وإن كان لفظ النحل مذكرا - { من } شقوق { الجبال بيوتا } تأوين إليها { و } كذا { من } شقوق { الشجر } في الآجام { و } كذا { مما يعرشون } [النحل: 68] ويبنون لك من الأبنية والأماكن، واصنعي فيها بالهام الله إياك بيوتات من الشمعة المتخذة من أنواع الأزهار والنباتات التي لا علم لنا بتعيينها وإحصائها كلها مسدسات، متساويات الأضلاع والزوايا، بحيث لا تفاوت بين أضلاعها وزواياها أصلا، بحيث عجز عن تصويرها حذاق المهندسين، فيكف عن تحقيقها وكنهها، تاهت في بيداء ألوهيته أنظار العقل وآراؤه.
{ ثم } بعدما تم بناؤك { كلي من كل الثمرات } التي ألهمناك أكلها { فاسلكي } في اتخاذ العسل منها { سبل ربك } أي: السبل التي ألهمك ربك بسلوكها على وجهها بلا انحراف واعوجاج { ذللا } مسخرة في حكمه بلا تصرف صدرت عنك.
ثم لما عملت على مقتضى ما أوحيت وألهمت { يخرج } لكم أيها المكلفون بالإيمان والمعارف { من بطونها } أي: بطون البيونات { شراب مختلف ألوانه } أبيض وأسود، وأخضر وأصفر { فيه شفآء للناس } عن الأمراض البلغمية بالأصالة، وعن غيرها بالتبعية { إن في ذلك } الإلهام والوحي والخطاب على الزنبور الضعيفة بأوامر عجز عنه فحول العقلاء، الكاملين في القوة النظرية والعلمية، وامتثالها وصنعها على الوجه الأمور بلا فوت شيء منها { لآية } أي: دليلا واضحا، وبرهانا قاطعا لائحا على قدرة القادر العليم، والصانع الحكيم الذي ألهمها وأوصاها ما أوصاها { لقوم يتفكرون } [النحل: 69] ويتدبرون في الأمور، ويتعمقون فيها متدبرين في أنيتها؛ كي يصلوا إلى لميتها.
Unknown page