287

[12.96-100]

{ فلمآ أن جآء البشير } وهو يهوذا مع القميص { ألقاه على وجهه } على الوجه المأمور { فارتد } أي: عاد ورد فجأة { بصيرا } كما كان في سالف الزمان، فشكر الله وحمده، وسجد له سجدة خضوع وخشوع وتذلل تام، ثم رفع رأسه من سجوده { قال } لبنيه ولحضار مجلسه: { ألم أقل لكم } حين لمتوني بالأسف والحزن وكثرة المناجاة مع الله لملاقاة يوسف { إني أعلم من } كرم { الله } وسعة جوده ورحمته { ما لا تعلمون } [يوسف: 96] أنتم أيها اللائمون.

ثم لما سر يعقوب عليه السلام وخلص من الشدائد والمحن وقر عيناه { قالوا } أي: بنوه منادين له متضرعين إليه: { يأبانا استغفر لنا ذنوبنآ } التي كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا { إنا كنا } فعلنا من الجرائم العظام والمعاصي والآثام { خاطئين } [يوسف: 97] جاهلين عن عواقبها وما يؤول إليها؛ إذ هو من قضاء الله إيانا ولا مرد لقضائه.

ثم لما تفرس يعقوب عليه السلام منهم الإخلاص والإنابة التامة والرجوع عن ظهر القلب { قال سوف أستغفر لكم ربي } في ذاته { إنه هو الغفور } لذنوب عباده بعدما أخلصوا { الرحيم } [يوسف: 98] لهم يقبل توبتهم.

سوف أمر استغفارهم إلى ملاقاة يوسف والمشورة معه، يدل عليه ما روي أن يعقوب استقبل القبلة قائما يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين حتى نزل جبري عليه السلام، فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في حق أبنائك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة.

ثم لما صمموا عز الرحيل إلى مصر شدوا ركابهم، وساروا حتى وصلوا إلى قربها، سمع يوسف بقدومهم، وخرج إلى استقبالهم مع الملك وجنوده وجميع أهل مصر { فلما دخلوا على يوسف } ووصلوا إليه { آوى إليه } أي: اعتنق وضم يوسف { أبويه } إلى نفسه وواسا معهما { وقال ادخلوا مصر إن شآء الله آمنين } [يوسف: 99] عن نكبات الجدب والقحط وآذيات الرحيل.

{ و } بعدما دخلوا على بيته { رفع أبويه } تعظيما لهما وتوقيرا { على العرش } الذي يجلس هو عليه، وهو يقوم بين يديهما { و } بعدما تمكن أبوأه على عرشه { خروا } أي: هما وبنوهما { له سجدا } أي: خرجوا لشكر لقياه وشرف حضوره لله سجود شكر وخضوع.

ولما رأى يوسف سجودهم تذكر ما رأى في المناقم في أوان الصبا { وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل } في سالف الزمان { قد جعلها ربي حقا } صدقا محققا مطابقا للواقع { وقد أحسن بي } ربي بأنواع الإحسانات { إذ أخرجني من السجن } بعدما كانت فيه مدة مديدة { و } أعظم منه أنه { جآء بكم من البدو } أي: البادية البعيدة { من بعد أن نزغ } وأوقع { الشيطان بيني وبين إخوتي } بأنواع الإيقاعات والوساوس { إن ربي } الذي رباني بأنواع اللطف والكرم { لطيف } مدبر كامل وموفق كافل { لما يشآء } من الأمور ويريد إصلاحه { إنه } بذاته { هو العليم } بعلمه الحضوري لمصالح عباده { الحكيم } [يوسف: 100] المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق بعلمه وإرادته.

[12.101-104]

ثم دعا يوسف عليه السلام لنفسه وناجى مع ربه مناجاة صاردة عن محض الحكمة والذكاء والفطنة بقوله: { رب } يا من رباني بلطفك وفضلك بأنواع التربية والنعم إلى حيث { قد آتيتني } وأعطيتني { من الملك } الظاهر أي: الحكومة المتعلقة بعالم الشهادة { وعلمتني من تأويل الأحاديث } أي: العبور من الحوادث الكائنة في عالم الشهادة إلى ما في عالم الغيب من الصور المقتضية إياها { فاطر السموت والأرض } أي: عالم الأسماء التي انعكست منها هذه الأظلال الهالكة الشهادية { أنت } بذاتك بعدما تحققت بتوحيدك وانكشفت به، ورفعت الحجب بيني وبينه { وليي } ومولى أمورري وحامل أسراري { في الدنيا والآخرة } أي: في النشأة الأولى والأخرى { توفنى } اقبضني { مسلما } مسلما مفوضا جميع أموري إليك { وألحقني } بلطفك { بالصالحين } [يوسف : 101] الذين أصلحوا نفوسهم في النشأة الأولى والأخرى حتى يفوزوا من عندك بشرف اللقيا.

Unknown page