173

Tafkir Cilmi

التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر

Genres

66

مؤكدا أنه يوجد عالم واقعي وموضوعي خارجا عن الذات وباستقلال عنها، كما أن معرفتنا به معرفة موضوعية لا تتطلب إدراكه في الإحساس والخبرة فقط، بل بالأساس إنشاءه عقليا وإعادة بنائه؛

67

ففي خطاب وجهه أينشتين إلى ماكس بورن في 30 ديسمبر سنة 1947م، يقول: «لقد أدى بنا تطور العلم إلى أن أصبح كل منا على طرف نقيض من الآخر (أنت تؤمن بإله يلعب بالنرد، أما أنا فأومن بوجود قواعد دقيقة وقوانين يخضع لها الكون خضوعا موضوعيا ...)، فالاحتمال الذي تتضمنه الفيزياء الكوانتية الإحصائية لا ينبغي أن ينسينا أن العلم لا يمكنه التخلي عن فكرة خضوع الظواهر للقانون؛ فالإحصاء ليس يمثل حلا نهائيا لمشكل تحديد حركة الجسيمات الدقيقة . يقول أينشتين: «لا يمكنني أن آخذ بالنظرية الإحصائية بصورة جدية؛ لأنها تتعارض مع المهمة الأساسية للفيزياء؛ أي وصف الواقع في المكان والزمان (...) وإني مقتنع تمام الاقتناع بأننا سننتهي بنظرية تكون الروابط والعلاقات فيها حقائق لا احتمالات؛ فالصفة الإحصائية للنظرية الكوانتية الراهنة، ناتجة بالضرورة عن عدم كمال وصفنا للمنظومات الملاحظة، فلا مبرر يدعونا إلى الاعتقاد بأن أساس الفيزياء سيبقى مستقبلا هو الاحتمال. وإن هيزنبرج وديتوش وغيرهما باعتقادهم أن فكرة اللاحتمية في الفيزياء الكوانتية هي لاحتمية صميمة، يغفلون مسألة أساسية وهي أن النظرية الكوانتية القائمة ، لا تمثل سوى مرحلة انتقالية من تطور العلم، ولا يمكن التشبث بها كمنطق أكيد ونهائي لتطور الفيزياء اللاحق؛ فالاحتمال لا يمكن أن يكون أساسا لتطور الفيزياء. وتبقى دائما هناك إمكانية التوصل مستقبلا إلى نظرية نستطيع بواسطتها الإفصاح عن حركة الجسيمات الدقيقة منفردة بواسطة دالة متصلة زمانيا ومكانيا.»

68

وانطلاقا من هذا المنظور، انتقد أينشتين تفسير كوبنهاجن لميكانيكا الكم الذي يناصره هايزنبرج، والذي يوقعنا في رفض الواقع الموضوعي لعالم الكم؛ بمعنى أن أينشتين يرفض مثلا أن يكون للإلكترون موقع محدد تماما وكمية حركة محددة تماما في غياب ملاحظة فعلية لموقعه أو لحركته (ولا يمكن أن يكون لكليهما سويا في نفس الوقت قيم قاطعة). وعلى هذا فلا يمكن أن نعتبر الإلكترون أو الذرة شيئا صغيرا بالمعنى الذي تكون فيه كرة البلياردو شيئا. إن كلامنا يكون بلا معنى إذا نحن تحدثنا عما يفعله إلكترون بين ملاحظتين؛ لأن الملاحظة وحدها هي التي تخلق واقع الإلكترون. وعلى هذا فإن قياس موقع إلكترون ما يخلق «إلكترونا له موقع»، وقياس كمية حركته يخلق «إلكترونا له ذا حركة» لكنا لا نستطيع أن نعتبر هذا الكيان أو ذاك موجودا بالفعل قبل أن نجري القياس.

69

وفي مقابل ذلك نجد أن صورة العالم الكلاسيكي التي يعتنقها أينشتين في حماس هي صورة تنسجم جيدا مع العقل العام بتأكيدها الواقع الموضوعي للعالم الخارجي. وهي تسلم بأن ملاحظاتنا بالضرورة تقتحم ذلك العالم وتقلقه، لكن هذا الإقلاق ليس سوى اتفاق عرضي يمكن التحكم فيه وتقليله. ثم إن هذه النظرة تعتبر العالم الصغير مختلفا في المدى، لا في مرتبة الوجود، عن عالم الشهادة الكبير؛ فالإلكترون صورة مصغرة من كرة بلياردو عادية، ويشترك مع هذه الأخيرة في مجموعة كاملة من الخصائص الدينامية، مثل صفة الوجود في مكان ما (نعني أن لها موقعا) والحركة في مسار معين (نعني أن لها كمية حركة)؛ فملاحظاتنا في العالم الكلاسيكي لا تخلق الواقع وإنما تكشفه. وعلى هذا تظل الذرات والجسيمات موجودة تحمل صفات محددة تماما حتى لو لم نكن نلحظها.

70

ومن هذا المنطلق شرع أينشتين يدعو إلى استبعاد المنهج الاحتمالي كأساس للفيزياء النظرية بوجه عام، نتيجة لربطه جوهر الفيزياء النظرية بالوصف الفردي الكامل؛ ولهذا كان على الفيزياء أن تبحث لها عن أساس جديد. إن أينشتين يتحرك كما يرى بعض الباحثين في إطار عقيدي خالص؛ فهو يدرك ويسلم بأن قانونية الطبيعة مركبة بحيث يمكن لقوانينها أن تصاغ صياغة كاملة وملائمة في إطار وصفنا غير الكامل، أو يسلم بأن الوصف الإحصائي للظواهر إنما هو وصف كامل لها، وهذا يعني أن هذه الظواهر إحصائية في جوهر تركيبها. إن أينشتين يسلم بهذه الوجهة من النظر، ولكنه يعتقد أن من الضروري البحث عن منهج آخر غير إحصائي، منهج يمكن به وصف الأنظمة الفردية وصفا كاملا؛ فأينشتين يرى أن معرفة الحركة الفردية هي أساس للعلم النظري، معرفتها لا في علاقتها بالأفراد الآخرين. وإنما من حيث إنها عالم مستقل كامل. ولما كانت هذه المعرفة غير قائمة في الفيزياء الحديثة، رفض هذه الفيزياء، واعتبرها مرحلة موقوتة بل لعبة من ألعاب زهرة النرد «لا يمكنه أن يقتنع بها».

Unknown page