Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Genres
إن الفكرة المسبقة التي يعول عليها فييرآبند، هي أن المعرفة تتخذ من الاعتقاد المسبق أساسا تنطلق منه النظرية العلمية المكتشفة، كما تدخل فيها الذات الإنسانية بشكل أساسي. وهذا يؤدي إلى شيئين أو نتيجتين: (1)
استحالة الوصول إلى معرفة موضوعية تماما عن العالم المادي. وإنما تقوم معرفتنا للعالم نتيجة تدخلنا فيه بقدراتنا العقلية وآلاتنا ومقاييسنا وفروضنا المسبقة. (2)
إن معرفتنا عبارة عن تركيب عقلي
Mental Construction
تلعب فيه الذات دورا أساسيا، وليست معرفتنا مطابقة موضوعية للوقائع.
33
ومن هنا ذهب فييرآبند إلى أن العلم لا يتمتع بأي ميزة أو مكانة تجعله يتفوق على الأنشطة والفعاليات الفكرية الإنسانية المختلفة. وهنا نراه يدافع عن المجتمع ضد كل الأيديولوجيات، والعلم من بينها بل قل هو على رأسها. وهو يرى أننا يجب ألا نتعامل مع هذه الأيديولوجيات باهتمام كبير أو نعطيها قدرا أو حجما أكبر مما تستحق، بل ينبغي أن نقرأها كما نقرأ الحكايات الخيالية.
34
ومن هذا المنطق والتوجه الفكري القائم على ما بعد الحداثة عند فييرآبند، انطلق معظم مثقفي ما بعد الحداثة في معظم أقسام الإنسانيات في الجامعات الأمريكية، يتبنون فكرة أنه ليس هناك حقيقة مطلقة أو صادقة في ذاتها، بل إن الحقائق يصنعها المجتمع بجوانبه الثقافية المتعددة لأفراده، فليس هناك «حقيقة» يجب أن يقر بها الجميع، وليس هناك حق مطلق، بل الحقيقة تصنع عن طريق اللغة، وفي داخل ذهن الإنسان لوحده؛ وبالتالي فما يقال عن التقدم أو التطور الذي رافق «الحداثة» أو الذي تدعو إليه ليس إلا خرافة، وما يقال عن قدرة العقل على اكتشاف الحقيقة، إنما هو وهم؛ فالحقيقة لا تكتشف؛ لأنه ما ثم حقيقة أصلا، وإنما الحقيقة «تخلق» ولا تكتشف، فالإنسان هو الذي يخلق حقائقه، فأفكارنا ليست إلا انعكاسا للواقع؛ بل قراءة له، وهي قراءة تتخذ صيغا أسطورية وأيديولوجية ودينية ونظرية، وكل منظومة معتقدية تعتقد أنها تمتلك الحقيقة وتميل إلى اعتبار كل ما يناقضها ويخالف حقيقتها أكذوبة أو خطأ. إن فكرة الحقيقة هي المنبع الأكبر للخطأ، والخطأ الأساسي يقوم في التملك الوحيد الجانب للحقيقة.
35
Unknown page